فلسفة العقوبة في شريعة الإسلام تنطلق من كونها تقع في منزلة بين منزلتين: التقويم والردع، تقويم المخالف وردع الآخر. والعقوبات في الشريعة ثلاثة أنواع: (الحدود) وهي عقوبات تم النص عليها من الشارع على وجه التحديد. النوع الثاني: القصاص والديات. والنوع الثالث: (التعزير): وهي عقوبة أعطى الله جل شأنه تقديرها للحاكم، وسميت العقوبة بالتعزير لأن التعزير هو التأديب والردع، واللذان هما مناط القصد هنا من العقوبة، ويعرف الفقهاء العقوبات التعزيرية بأنها عقوبة كل مخالفة شرعية لا حد فيها.
النوعان الأول والثاني: أحكامها قطعية، غير قابلة للاجتهاد أو التغيير. أما النوع الثالث: (التعزير) فهي العقوبات التي يعود تقديرها للقاضي صاحب الولاية، هو الذي يقدر في أحكامه ترجيح (التقويم) أو ينحو إلى التشدد في (الردع)، حسب مقتضيات الحالة ذاتها، وكذلك حسب (الظروف) التي تكتنف المجتمع عند وقوع المخالفة الشرعية. وأغلب الجرائم والجنح المنظورة في محاكم المملكة لا حد فيها أو قصاص. أي أن الأحكام المترتبة عليها تكون في الغالب أحكاماً (تعزيرية) وبالتالي تعطي الشريعة قدراً كبيراً من المرونة للحاكم الشرعي لتقديرها، وتحديد عقوبتها، حسب مقتضيات الحالة.
وطالما أن العقوبة التعزيرية كما سبق وقلت تقع في منزلة بين الردع والتقويم، أي أن المقصود بها ليس الانتقام والتشفي، وإنما الزجر والتأديب، فلماذا لا نستفيد مما توصلت إليه العلوم، وبالذات علمي النفسي والاجتماع، ونوظف هذه المنتجات العلمية في خدمة علاج أصحاب هذه المخالفات قضائياً، بالشكل الذي يكرس التقويم ولا يفوت الردع. يقول اختصاصي الأمراض النفسية في مستشفى الصحة النفسية بجدة الدكتور سهيل خان كما جاء في جريدة (الحياة) اللندنية: (إن العقوبة البديلة أسلوب راق لعلاج مشكلات سلوكية لدى بعض مرتكبي الأخطاء (الجنايات) ولا شك أن منها فائدة كبيرة. ويواصل: (من الناحية الطبية النفسية فإن العلاج البديل هو تنمية سلوك إيجابي لدى الجاني أو الحدث واستئصال السلوك السلبي لديه، وعدم تعريض الجاني (الحدث) لخطورة اكتساب سلوكيات من داخل السجن)، مشيراً إلى أن (الشخص عندما يرتكب جناية فإنه يحمل سلوكاً سلبياً ولديه طريقة تفكير سلبية، فيتم تعديلها بطريقة إيجابية، واستبدالها بأمر إيجابي). (فعقوبة الجلد - مثلاً- والإسراف فيها (بعض الأحكام قد تصل إلى 2000 جلدة) ربما يكون لها انعكاسات سلبية، قد يؤدي الإفراط فيها بهدف (الردع) إلى التفريط بالجانب الآخر والمهم وهو (التقويم).
السجن كذلك له سلبيات كثيرة كما دلت التجربة على أرض الواقع وبالذات في المملكة الدكتور فيصل بن غازي الحازمي يقول في دراسة تحليلية أجراها على (نماذج عقابية لمرتكبي الجرائم التعزيرية): (خطورة السجن؛ خاصة بالنسبة لبعض أصناف من الجناة ذوي السلوك الإجرامي غير الخطر، كمرتكبة الجرائم بالصدفة، ويعرض الحبس الطويل النزيل للعزلة الاجتماعية القاسية، التي تؤدي إلى حرمانه من حاجاته النفسية والشعور بالانتماء لمجتمعه الأصلي، مما يدفعه إلى موالاة رفقاء السجن من المجرمين والمنحرفين، ونتيجة للاحتكاك والتفاعل الاجتماعي معهم يتعلم أساليب إجرامية تزيد من خطورته وتؤصل الإجرام في نفسيته)، وهذا يعني أن السجن بدلاً من أن يكون أداة إصلاح وتقويم، يصبح سبباً لتكريس الانحراف والجريمة.
لذلك فإنني أجد أن (الأحكام البديلة) والتي تعتمد على (التقويم)، وتبتعد عن الإيلام الجسدي الذي قد يُفضي إلى التعذيب، ومحاولة تفادي السجن ما أمكن، والعمل على تكريس العقوبات البديلة سيكون له مردود اجتماعي جيد على الشخص والمجتمع في آن وكذلك على سمعة المملكة في الخارج.
إلى اللقاء.