من الرَّجم بالغيب والهيام في أودية التِّيه أن يتصور غيرُ أولي المعرفة أن التقاطعات الفكرية ووقوع الحافر على الحافر كافيان للجمع بين الأشتات من المفكرين، أو أن يظنُّوا أن اللقاء العارض حول نظرية المعرفة.
|
تُحتِّم على المتوافقين فيها أو في سائر نظريات التلقي والتأويل أن يكونوا أخلاَّء في الموارد والمصادر وحين الحكم، وما أوقع في الوهم والشحناء إلا التلبيس على المبتدئين بالتداخل الدائري بين النِّحَل والمِلل، ولقد لقيت من مثل هذا التصوّر غير السوي نصباً يوم أن خُضْت أثباج الحداثة وأمواجها في أوج الشباب وعنفوانه، وحين تنازعت مع الحاضر والباد من مدعيها، حتى لقد تصورت نفسي الشاعر المثخِن لخصومه ومناقضيه (جرير بن عطية الخطفي) الذي يقول مُدلاَّ بقدراته:
|
لما وضعت على الفرزدق ميسمي |
وضَغا البَعيث جدعت أنف الأخطل |
أو كما (حسان بن ثابت) الذي يدل بفصاحته وشجاعته:
|
لساني وسيفي صارمان كلاهما |
ويبلغ ما لا يبلغ السيف مِذْودي |
وبعد انطفاء أُوار المناكفات الفارغة تبيَّن اضطراب المفاهيم وضحالة المعارف وإصابة الأقوام بجهالة، فالحداثة مصطلح مراوغٍ متعدد المجالات والمفاهيم، متباين الدركات والدرجات، يكون في حالٍ مطلباً ضرورياً، وفي حال تزيّداً وادِّعاءً، والحداثيون كأبناء القبيلة الواحدة يجمعهم التسمِّي والانتماء وتفرقهم المشارب والاهتمامات، ولا غرابة في ذلك ولا شذوذ؛ فالأشقاء بل التوائم تجمعهم الأرحام وتتفرق بهم طرق المعرفة ونظريات الاستقبال، والحَكَمُ العدل المستبرئ لسمعته ودينه، المستجيب لأمر الله في التبيّن المتحري للدقة والموضوعية في أحكامه، لا يستبق الأحكام المرتجلة ولا يركن إلى المصادرة والإقصاء والتصنيف، ولا سيما في زمن استفحلت فيه الحدَّة والحدِّية وسوء الظن، وفي الوقت نفسه لا يكون مُمَيِّعاً ممسوخاً متنازِلاً عن ثوابته ومحققات حضارته، وأحسبنا في زمن القبض على الجمر، زمن الغرباء الذين يَصلُحون إذا فسد الناس أو يُصلِحون ما أفسد الناس. فكم هو الفرق بين حداثي يخوض في وحل العهر والكفر إلى الأذقان، ويتلذذ في إبداء صفحته مجاهراً بالمعاصي، وكأنه الشعوبي النواسي الناسل من مواخير (والبة بن الحباب) الذي يتحدى مشاعر الأمة بقوله:
|
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر |
ولا تسقني سرَّاً إذا أمكن الجهر |
إلى أن يقول -قطع الله لسانه-:
|
فبُح باسم من تهوى ودعني من الكنى |
فلا خير في اللذات من دونها السِّتر |
ومثل هذا المجاهر المعاند المتلذذ بالمجاهرة والإيذاء لا يكون كمن هو في ثبج من الأوحال يغرف بيده غرفة من آسنها، ولا يكاد يسيغها، والاثنان لا يكونان كالمعتدل المتوازن الذي لا يأخذ من الحداثة إلا جانبها الفني، غير أنه لا يجد مانعاً من قبول التسمِّي باسمها ظناً منه أن الخصوم لا يدينونه إلا من بعدما ينقبون في أوعيته ولا يأخذون إلا من وجدوه متولياً كبر الخطيئة، وتلك المجازفات في الأحكام والمبادرات في الفتاوى وتصنيف الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق دون تثبّت ونظر في جلب المصالح ودرء المفاسد وسد الذرائع أصبحت مزلة أقدام ومضلّة أفهام وسبيل قاصد لتصديع وحدة الفكر للأمة التي لا تقل أهمية ولا خطورة عن تصدع الوحدة الإقليمية، ولا سيما أن الزمن ليس مواتيا للأمة ولا متلائما معها. والذي غمرني بتلك التداعيات ما لقيته من معارضة عنيفة حين وصفت الحداثي العلماني (نصر حامد أبا زيد) بالإلحاد في آيات الله.
|
فكان رد أحد الشباب المتعالق دون علم مع تلك الصيحات عنيفا وجريئا لا يحتمله إلا من تكسَّرت نصال النقد الجارح على النصال في جسم سمعته، إذ وصفني بالتحريضي والتصنيفي، وحاول أن يستل أبازيد من المعمعة كما تُسَل الشعرة من العجين، حيث وصفه بالاعتزالية، وأنه لا يعدو أن يكون كذلك، ولكي يجهض ما ذهبت إليه ويعزز ما يقول راح يمطرني بوابل من الشواهد والأدلة؛ محتجا بأنه ما من أحد من العلماء الأوائل والأواخر اتهم الاعتزال بالإلحاد. ولقد تبينت لي فداحة التصور الخاطئ، فالشاب المعترض لم يكن سيئ المعتقد، ولا منحرف التفكير، ولكن الضعف في الآلية والضحالة في المعرفة. والتأثر بالخطاب الغربي الذي اتخذ من أحداث الحادي عشر من سبتمبر منطلقا لعولمة العالم الإسلامي وتشكيكه في دينه وثوابته، وهو انصياع غير واعٍ، وموجة عاتية مآلها إلى التكسر على الشواطئ وعودة الحق ولكن بعد فوات الأوان و(خراب مالطة)، هذه الإمكانيات الضَّحلة، وذلك التأثر المخيف بالطقس السياسي المؤدلج جعلته يتصور أن النزوع العقلي عند (أبي زيد) يحشره في زمرة الاعتزال القديم، كما هو عند من تناولوا الإعجاز البياني في القرآن بآلية البلاغة العربية؛ كالقاضي عبدالجبار وجار الله الزمخشري والرماني، والجمع بين الاعتزال والعقلانيين المعاصرين جمع مع الفارق، وهؤلاء وأولئك لا تجوز تسميتهم بالعقلانيين؛ فالعقل مناط التكليف، وللعقل مجاله الأوسع في التشريع، والمشرِّع يوازن بين العقل والنقل والدراية والرواية، والنص الشرعي والنظر العقلي جناحان يخفق بهما العلماء الربانيون في الآفاق، ومن ثمَّ يصدق على هذا الصنف من المفكرين قوله تعالى: { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}. ولقد وصف الله هذا الصنف بالسهو: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ}فهم أبداً في قول مختلف.
|
والعلماء السلفيون الذين تصدوا لهذه النوازع ولبعض النوازل؛ كالمنطق والكيمياء، أخذوها بآثارها لا بذواتها، ومن أراد الوقوف السليم من تلك النوازع والنوازل فلينظر إلى تصديات شيخ الإسلام ابن تيمية في مجمل مشروعه الإصلاحي من خلال فتاواه وكتبه المتعلقة بالمِلَل والنِّحل، فهو ومن شايعه من العلماء لا يحولون دون حرية التفكير والتعبير، وكيف يُتَصوّر منهم معارضة العقل والفَرَقُ من التفكير الحر وهم ينطلقون من النصوص التي تحيل إلى العقل، ولقد ذُكِر العقل في القرآن قرابة خمسين مرة كلها في سياق التأكيد على أهمية العقل: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، {إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}، {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}واستيفاء أهمية العقل وشرطيته في المعرفة والصلاح والكمال تقصَّاها علماء أفذاذ أمثال اليافعي في كتابه (مرهم العلل المعضلة في الرد على أئمة المعتزلة) وعبدالجبار في (المنهج العلمي للاعتقاد) والأثري في كتاب (العقلانيون أفراخ المعتزلة العصريون)، وستظل هذه الإشكالية بين العقل والنقل محور الخلاف متى حكمها الهوى والتخرُّص.
|
للحديث بقية |
|