هل تريد أن تكون نجماً؟ هل تريد أن تكون ثرياً؟ هل تريد أن تكون ضيف المهرجانات والمعارض والمحافل والمنتديات؟ اكتب (رواية) فهي النص الأدبي المفتوح القابل للقول، والمهيأ لتحميل شخوصه بالأفكار..
والمصور الواقعي والمجازي للمجتمع في سياق متخيل قد يتكئ على شيء من السيرة الذاتية. وإن أردت أن تكون موضع جدل دائم فاضرب بالمليان في (التابو) ولا تتجافى عن نقاط التماس الصعبة في هذه المرحلة؛ وهي: المرأة، وليس المرأة كقضية إنسانية؛ بل المرأة الأنثى؛ المرأة (الجنس)، والاتجاه المحافظ في المجتمع، وبالأخص منه رجال الحسبة، أو الهيئات، أو المطاوعة!.
هذا زمن المواجهة مع التيار المحافظ؛ المواجهة التي تأخرت عقودا طويلة؛ وإن كانت تتم بحذر وتخوف وشعور بالهلع من ردود الفعل القوية المنتظرة؛ أما الآن فلا تخوف ولا هلع ولا ردود فعل منتظرة!.
خرج المعبر القاعد الصامت سنين طوالاً من قمقمه، أبصر النور، واستنشق هواء الحرية الذي كان يتعطش إليه، ولى ذلك الزمن الذي يهرب فيه الكتاب، أو تطمس فيه الكلمات، أو يجرجر فيه الكاتب، انفتحت السماء على آلاف الكتب والأفكار، وانهارت الحصون، وسقطت النخبة، وتساوى العارفون بغير العارفين، وأصبحت المعرفة الرفيعة المخصوصة والصعبة سهلة ميسورة المنال؛ فلا مثقف وجاهل، ولا منظر ومتلقي، ولا عارف بصير ومستمع بليد!!.
لا شك أن صدمة هذا الفضاء الذي انفتح فجأة عنيفة وراجة وعميقة التأثير، وما انتظر المحبوسون سنين في قماقم الممنوع والمحظور طويلاً؛ بل اندفعوا معبرين عن مكنوناتهم، مفضفضين عن آمالهم، مصورين واقعهم الذي (كان) ومستقبلهم الذي (سيكون)!.
لا زلنا في مرحلة الصدمة العنيفة تلك، ولا زالت فورة التعبير عن المسكوت عنه، ولا زال الاستمتاع بممارسة حرية القول له طعم خاص ومذاق مختلف؛ فلا غرابة أن نقرأ من آثار هذه الصدمة ما يثير العجب، وما يدعو إلى الإنكار والسخط، وما قد يدفع بعض الحريصين على المحافظة على القديم المألوف إلى الشكوى المرة من انهيار الأخلاق، وشيوع الفحش، وضياع الهوية.
ولقد كان حلم التعبير المفتوح البعيد عن القيود المتعنتة الغبية المصابة بالخُواف وفوبيا المكاشفة مطمح كثيرين من المستنيرين؛ ودافعهم أننا لن نستطيع تمدين هذا المجتمع ومعالجة أدوائه دون أن نكون صادقين مخلصين عميقي الصدق والإخلاص في تصوير أدوائه ومشكلاته العويصة واجتراح الرؤى البصيرة لتلك الأدواء والإشكالات، ومن هذا الصدق الفني الانكشاف على مناطق الألم، والحديث عن وجع جسدنا الاجتماعي؛ كالمريض المرهق الذي يئن ويتلوى وهو مسجى على سريره عند الطبيب؛ فلابد له إن أراد الشفاء، وطلب العافية من أن يشكو ويسرف في الشكوى وتوصيف أشكال وصور ما يعتريه من آلام ورهق؛ وإن قصر في ذلك أو أصابه عِيٌّ تغمغم الأمر على الطبيب وبهت واحتار في مريضه الصامت ولم يجد له دواءً، ولا لأوجاعه ما يخفف وطأتها ويكشف التباساتها؛ وكذا الأمر في الرواية والقص؛ فهم أعني كتاب الرواية والقصة المتحدثون الناطقون المفضفضون عن هذا المجتمع، أو هكذا يفهمون ما يفعلون؛ وإن لم يوكلهم أحد من أبناء هذا المجتمع أو ينيبهم في هذا الحديث المكشوف والصريح.
إن مجتمعنا يسعد ويشقى، ويفرح ويحزن، ويعلو صوته ويخفت، وله مطامح وآمال، وأمامه مشاق ومعوقات، وفيه من هو تقي صالح ورع، وفيه أيضاً من هو فاسد شقي وماجن، فلسنا مجتمعاً ملائكياً منزهاً، ولن نكون بدعاً واستثناء من المجتمع البشري الإنساني، ومن يزعم أن من الخير رسم صورة زاهية منمقة جميلة أخّاذة في الرواية والقصة على أن هذا من باب البر والإحسان إلى هذا المجتمع فهو بعيد عن تحقيق هذه الغاية الشريفة؛ لأنه يظهر الحسن ويبطن السيئ، ويعلن الفضيلة ويتجافى عن الرذيلة، ويطنب في مديح وجوه الخير ولكنه يغفل عن ذكر وجوه من الشر قد تكون معلومة وذائعة، والغفلة عنها لا تمحوها ولا تعالجها ولا تخفيها، فهي موجودة كطبيعة بشرية؛ ولربما قاد ذكرها والحديث عنها إلى تلمس طرق حسنة لمعالجتها والتخلص منها.
لقد أوحت إلينا هذه الروايات الجديدة التي بدأت انطلاقتها من عام 1414هـ بصدور رواية (شقة الحرية) للدكتور غازي القصيبي وليس انتهاء بصدور رواية (شارع العطايف) لعبدالله بن بخيت بأننا مجتمع فيه خير وشر، وفيه فرح وترح، وفيه أغنياء وفقراء، وفيه مسحوقون بائسون ومليئون مترفون؛ كما أن فيه شهوات مستبدة، وعالم آخر خفي أو مخفي لا يماثل أبداً ما هو ظاهر معلن، وهذا متفق كل الاتفاق مع الطبيعة البشرية كسائر خلق الله في هذا الكون الفسيح، الممتلئ بما هو خير وشر، والمتدافع نحو الغنى والفقر، والمتطاحن في مدارج السعادة والشقاء، والبؤس والنعيم.
انفتح القمقم الثقيل فتدفق التعبير المنثال كالسيل في مطر صيفي عنيف وحاد، فامتلأت مكتباتنا ومعارضنا بلون من القص جديد لم نألفه ولم نعهده؛ لأننا في واقع الأمر لم نألف الشكوى، ولم نعهد الإفصاح والبوح عن التفاصيل الصغيرة في حياتنا، ولم نألف الاعتراف بذنوبنا وخطايانا لنتطهر منها ونبحث لها عن علاج شاف ودواء ناجع من خبير بصير!.
لقد ولت حقبة الكتابة الرومانسية الرفيقة بما تواضع عليه الناس لدينا من مفهومات اجتماعية، ولت وبقيت فصلاً مهماً في تأريخ الوعي الثقافي، ومرحلة مهمة من مراحل التدرج في الوعي؛ فلن نجد رفقًا واعتدالاً في تناول العادات والتقاليد الاجتماعية، ومنها مثلاً: قضية المرأة، في ما يجد من كتابة روائية؛ كذلك الذي كنا نقرؤه في رواية: (فكرة) لأحمد السباعي، أو (ثمن التضحية) لحامد دمنهوري، أو (سقيفة الصفا) لحمزة بوقري، أو (لا تقل وداعاً) لسيف الدين عاشور، أو (لا ظل تحت الجبل) لفؤاد عنقاوي، وغيرهم من كتاب الرواية الرومانسية الرقيقة الهادئة التي لا تعنف ولا تنكشف أو تمجُن في الوصف والتصوير وذكر المحرم والفاحش من القول.
ولت تلك الحقبة ودخلنا عنوة وبدون تهيئة نفسية أو فكرية للمواجهة العنيفة مع الذات، ومصارحتها، والحديث عنها وإليها، وإزاحة تلك الغلالة الشفيفة الحاجبة، وكسر الجليد المانع من تدفق الماء في الجدول؛ بدأه غازي بحديث بين السيرة والقص، والواقع والخيال، والتأريخ والأحلام، فدفع بطله (فؤاد الطارف) إلى أن يقوم ويسرف في القول، وإلى أن يجرأ على قص كثير مما كان قبل محرماً وصعباً وشاقاً على النفس قبل أن يكون ثقيلاً ومصادماً للمجتمع نفسه.
ثم اندفع كاتب آخر في هذا الطريق المعبأ بالألغام والمحفوف بالاتهام فأخرج بعده بسنة وعلى التوالي الدكتور تركي الحمد ثلاثيته الشهيرة (أطياف الأزقة المهجورة) وهي: العدامة، والشميسي، والكراديب، فكانت أكثر جرأة في ملامسة المحظور، وأكثر اندفاعاً في الحديث المختلط بين السيرة والقص كسابقه عن حياة بطله (هشام العابر) الذي لم يأل جهداً في تصوير بيئة الرياض باسمها، وباسم شوارعها وأحيائها وليس كما فعل ابن بخيت بقلب الأسماء والمسميات هروباً من الإدانة، وابتعاداً عن تأريخية العمل الفني.
ولئن كان للقصيبي وللحمد تجويد وإمتاع وإبداع كما أن لهما خيبات فنية إن لم يكن هذا الحكم النقدي فيه شيء من القسوة؛ إلا أن هذا السبيل الكتابي الصعب المحفوف بالمكاره والشهوات قد استهوى كثيرين من الكتاب والكاتبات، فاندفعوا راكضين وراء غواية الحضور، وجذب فضاء الحرية التعبيرية الذي انفتح فجأة في سياق التغيرات الاتصالية، ومعطيات انهيار مفهوم النخب الثقافية، وشيوع مصطلح القرية الكونية، وهيمنة ثقافة الشارع، ويسر مسألة التعبير والقول الفردي الإرادي في الإنترنت وغيره، فامتلأ السوق بما كان محتقنًا مخزونًا سنين طوالاً، وبما كان محظورًا من قضايا الجنس، والتقاليد، والطائفية، والشذوذ، وما يحدث في قاع المجتمع من ممارسات؛ ولربما نعد من الأعمال المبكرة التي تلت تجربة شقة الحرية وثلاثية الحمد رواية رجاء الصانع (بنات الرياض) التي كشفت الغطاء عن عالم آخر صامت مخفي لا يريد المجتمع أن يتحدث عنه أحد بمثل ما تحدثت عنه الكاتبة؛ لأن الصورة الزاهية المنمقة الساكنة في الوجدان الاجتماعي عن المرأة لا يتمنى الناس أبدًا تغييرها أو الحديث عن تغيرها إن كان وقع بالفعل، فصورت الرواية - إذا صح لنا وصفها بذلك - عالم جيل جديد من فتيات الرياض يعيش علاقاته وخيالاته ومتعه ومغامراته وجموحه وعقله وتوثبه وقلقه وفق رؤية جديدة مختلفة كل الاختلاف عن موروثات جيل الأمهات؛ وهن الأقرب زمنًا إلى بناتهن من الجدات مثلاً! وعلى هذا الطريق انفتح السد المنيع بعد نجاح (بنات الرياض) التي ترجمت إلى لغات عالمية عديدة أمام كتاب وكاتبات سعين إلى الإيغال في ملامسة المحظور فرأينا: سعوديات لسارة العليوي، وشباب الرياض لطارق العتيبي، وملامح، ولم أعد أبكي، ونساء عند خط الاستواء لزينب خفي، واختلاس لهاني نقشبندي، ومفارق العتمة لمحمد المزيني، والقارورة، والحمام لا يطير في بريدة ليوسف المحيميد، وفسوق لعبده خال، وغيرهم.
وأمام هذا المد الزاخر بالجيد والرديء والغث والسمين والمبدع والمتعلق اللاهث خلف بريق وألق وخلب مصطلح (رواية) بكل ما يعنيه هذا المصطلح من تفوق وإبداع ونجومية وحضور؛ كان في هذا النتاج الكثيف المتوالي شيء من غثاثة وضعف وسوقية وتكسب وتكلف وادعاء واستجابة للدوافع والنوازع والرغبات وشيء من الاحتقان المعبأ القديم ضد قيم دينية واجتماعية وتقاليدية حسنة، استغل بعض الكاتبين والكاتبات فرصة ثغرة الفضاء التي انثلمت فاندفعوا غير مبالين بما تحدثه رواياتهم من آثار سلبية على المجتمع بعامة، وعلى النشء الجديد الشاب بخاصة!.
إن البون كبير جداً وواسع بين بداية المد عام 1414هـ عام صدور (شقة الحرية) وعام 1430هـ سنة صدور (شارع العطايف) فخلال خمسة عشر عامًا فقط أنتج من الرواية السعودية ما يعادل خمس مرات ما أنتجه الروائيون خلال كل العقود السابقة التي تنيف على سبعين عقدًا منذ صدور رواية (التوأمان) لعبد القدوس الأنصاري عام 1349هـ؛ فوفق إحصائية متابعة دقيقة للسنوات الثلاث المنصرمة نجد أن معدل الصدور قد وصل إلى خمسين رواية في السنة الواحدة!.
لقد بلغ الاندفاع في طريق الانكشاف وإغراء الحضور وغواية لذة الإفصاح عن المحظور أن يتولى روائي سرد وقائع حياة شاذ في (الواد والعم) لمفيد النويصر، وأن تتولى روائية سرد وقائع حياة سحاقية في (الآخرون) لصبا الحرز!.
بيد أن (شارع العطايف) لعبدالله بن بخيت تمثل في هذا الطريق الموحل الصعب نقلة غير عادية؛ ذلك أنها وضعت مجتمع (الرويض) الذي هو (الرياض) أمام نفسه بكل الجسارة غير المسبوقة؛ ليس في الأدب السعودي؛ بل في الرواية العربية إن لم نقل في الرواية العالمية، وهو ما سنتحدث عنه في المقال القادم إن شاء الله.
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام
كلية اللغة العربية
ksa-7007@hotmail.com