قال لصاحبه: نأكل الدقيق بعد أن يُطحن الحبّ، واليوم يتم ذلك وفق الطرق الحديثة، لكن أجدادنا يعتمدون في طحن الحبّ على الرحى ليكون مجروشاً أو دقيقاً ووفق الإمكانيات في عصرهم. ألا ترى معي أن الرحى تأتي بحصيلتها وفق ما تطحنه، فإن كان خليطاً من القشّ جاء كذلك، وإن كان قمحاً ..
فبعد أن يُطحن صار دقيقاً، وبالهناء نخبز ونأكل. فردَّ صاحبه: ماذا تعني بقولك هذا؟ هل تُعرّفني على شيء ربما عايشت مراحله الأخيرة! فرد صاحبه حيث قال: أردت أن أقارن هذا بما نمارسه من تفكير وأفعال، حيث أجزم أن منهاج التفكير السليم ذلك الذي لا تحيّز معه ولا عاطفة، ليقودنا إلى أفعال أقرب إلى الحقيقة والصحيح.
أردت أن أقول: لا هوى مع التفكير حرصاً على صواب الأفعال ومدى ما تؤثر به، لقد قال (ابن القيم) رضي الله عنه في كتابه (الفوائد - باب عن النفس البشرية) قول حق وتشخيص عالم، وما قاله بالنص: (إنَّ الإنسان لم يعطَ القدرة على أمانة الخواطر ولا القوة على قطعها فإنها تهجم عليه هجوم النفس إلا أن قوة الإيمان والعقل تعين على قبول أحسنها ودفع أقبحها)، ويقول رحمه الله اتصالاً بما قال: (دافع الخواطر الضارة التي تهجم على عقلك فإن لم تفعل تحولت الخواطر إلى أفكار ثم تتحول الأفكار إلى شهوات والشهوات إلى همم وعزائم، فإن لم تُدفع صارت فعلاً، فإن لم تتداركه بضده صار عادة يصعب الانتقال عنها). ووفق هذا المفهوم أقول، إذا كانت الخواطر أفكاراً تهجم كالنفس فبمقدورنا التحكم فيها في المنهاج وما تؤدي إليه من أفعال، لتكن المحصلة أقرب إلى الحقيقة.
وأسس التفكير الخالص النزيه ما تأسس على معطيات موضوعية تنتهي بنا إلى أحكام لا تحيز معها أو عاطفة، فالحقيقة هي مقصدها، وما نفكر به تحدده عناصره، مثل: سعة الأفق وأبعاد النتائج ومدى تأثرها وكذلك تأثيرها، كما أن المصداقية مع النفس ومع الموضوع تصون الأفعال من كل غثّ فتتجه إلى الثمين، وكذلك توفر معلومات حول موضوع التفكير، ومدى التزامنا بها والتحقق منها من الأسس المطلوبة.
أما التفكير وفق انطباعات مغلوطة يصاحبها سطحية المعرفة لا تجدي، فتجعل الفعل في دائرة المجتمع عبئاً ثقيلاً بجانب الضرر الذي يلحق بنا، وما يتبعه من ندم.
ألا تذكر الحكمة الرومانية القديمة التي تشير إلى أن حياتنا من صنع أفكارنا، وقد أبان هذا (ديل كرنيجي) في كتابه (دع القلق وابدأ الحياة). ويأتي في مقدمة منهاج التفكير الاعتماد على الله، والإيمان بالقدر خيره وشره، والسعي والاجتهاد. فمحصلة تفكيرنا تؤدي إلى استنتاج قد يكون صحيحاً أو غير ذلك، وهذا رهن للعناصر التي ينطلق منها، والنية من وراء التفكير في توجيه الفعل، فإن كان صواب الفعل مقصدها أثرى عملية التفكير، والنية الخاطئة قد تعيق الرؤى فتأتي الأفعال وفق ذلك.
ولابد من اليقين بالضعف الإنساني فيستمدّ من الأقوى جلّ وعلا تأييده وعونه ليستقيم التفكير والفعل، كما أن التطير أو التشاؤم أو المبالغة في التفاؤل قد تقود إلى رداءة التفكير وسوء الأفعال، فليس فينا من يحب أن لا يصيب عملاً جيداً كنتيجة لفكر سليم والفعل من بعده فيتميز الكثير منه.
والتفكير وظيفة مهمة تفرضها الحاجة والحياة والناس من خلال موضوعات تربطنا بهم، ومن دون التفكير والفعل لا عمار للحياة، حيث يتميز الإنسان بعقله وتفكيره وأفعاله. ومنهج التفكير يقود إلى الحسن من الأفعال أو إلى القبيح منها، والخطى تسير وفق منهاج النجاح والتفوق أو الفشل الذريع وذلك بأثر النية والقدرة، كما أن جوانب الإنسان المتعددة لها تأثيرها على وظيفة التفكير والأفعال، كما أن المحصلة من العلم دعم للتفكير في المنهج والنتائج والأفعال يحجبها المعتقد أو يباركها فهو الضابط للتفكير والفعل. الإنسان ليس كاملاً ويملك قدرة التكامل ويفترض أن ما يصدر عنه كذلك، والمنهجية في التفكير قد تتأثر بالقدرات العقلية ولكنها نظام للوظيفة في الأساس، والتفكير وما يتبعه من فعل وسيلة بناء أو هدم أو كلاهما في القليل من الأحيان.. وبالله التوفيق.