يقول الحافظ ابن الصلاح: (لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى، ومن عرف بذلك لم يجز أن يُستفتى، وذلك قد يكون بأن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة، والإبطاء عجز ومنقصة، وذلك جهل، ولأن يُبطئ ولا يُخطئ، أجمل به من أن يعجل فيضل ويضل).
ولو طبقت هذه المقولة (الحصيفة) على من يتسابقون على الفتوى، وبالذات في القنوات الفضائية هذه الأيام، لوجدت أن بعض فقهائنا - هداهم الله - أحوج ما يكونون إليها. حتى أن أحدهم يجيبك قبل أن ينتهي المستفتي من سؤاله، وكأنه في سباق مع الآخرين، فيكشف عن اندفاع لا يؤهله للإفتاء، و(عجلة) من الواجب لمثله أن يبتعد عنها.
ومعروف عن الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- أنه أحياناً يتوقف في الإجابة على بعض الأسئلة التي تلقى عليه، ولا يجيب السائل آنيّا - كما ذكر معاصروه- فيطلب من المستفتي أن يأتيه بعد زمن حتى يتمكن من درس الموضوع المستفتى فيه، وتمحيصه، قبل أن يفتي فيه بأي وجه من الوجوه، ولا شك أن ذلك من العلم والحكمة والروية ورجاحة العقل.
ولم أسمع يوماً أن شيخاً من مشايخنا، من أولئك الذين نصبوا أنفسهم مفتين في القنوات الفضائية، قال عند استفتائه في أمر ما أن الأمر يحتاج إلى بحث، أو مراجعة، أو أنه متوقف، أو قال: (لا أدري). ولا يمكن عقلاً أن يكون المفتي - أي مفتٍ- قادراً على إجابة أي سؤال مهما كان، دون بحث ونظر وتروٍ ومراجعة فهذا الإمام مالك -فيما روي عنه- أنه سُئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها (لا أدري)، وسئل مرة عن مسألة فقال: لا أدري فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قوله جل ثناؤه (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)، فالعالم كله ثقيل، وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة، وقال: إذا كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تصعب عليهم مسائل، ولا يجيب أحد منهم في مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه مع ما رزقوا من السداد والتوفيق مع الطهارة فكيف بنا الذين قد غطت الخطايا والذنوب قلوبنا، وينسب إلى عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه أنه قال: (من قال: لا أدري فقد أحرز نصف العلم، لأن الذي له على نفسه هذه القوة قد دلنا على جودة التثبّت، وكثرة الطلب، وقوة المنة).
أريدكم فقط أن تقرؤوا هذه الأقوال التي تدعو إلى التثبت والتروي والبعد عن العجلة والاندفاع، وتقارنوها بفقهاء الفضائيات لتعرفوا الفرق بين فقهائنا في الماضي وفقهائنا الآن. أقول: (الله يريد بنا خير بس!). إلى اللقاء.