أتيح لي متابعة حلقة البرنامج التلفزيوني (ابرا) opraوقد كان موضوع الحلقة، الأثر الفعلي للأزمة المالية على بعض الأفراد من الشعب الأمريكي، وكانت العينة المختارة، تمثل تلك الشريحة الصغيرة جداً من المجتمع الأمريكي، غير أن ما أصاب تلك الشريحة يستوجب التأمل وأخذ العبر.
من تلك العينات أسرة كانت تعيش في منزل مستأجر، وكان دخل الأسرة يسمح بدفع الإيجار والعيش عيشة كريمة تتناسب مع مقدار الدخل، فخسرت الأسرة وظيفتها بسبب الأزمة المالية، فاضطرت مرغمة النزوح للعيش تحت خيام بسيطة جداً لا تكاد تقيهم شدة البرد، ولا تحميهم من زخات المطر، وقد بلغ من حالت به الحال إلى هذا المآل نحو ألف ومائتي فرد في كلفورنيا فقط، كما أن خيام مشابهة قد بدأت تنصب في ولايات أمريكية أخرى.
هذا العدد مرشح للزيادة إذا استمرت الأزمة في مسيرتها مقتلعة كل ما اعتاد عليه الناس من نمط عيش كريم، وهذه المخيمات غير قانونية غير أن بعض البلديات تدرس إمكانية تقديم بعض الخدمات الضرورية للقاطنين الجدد إلى حين الانفراج المنشود.
وأسرة أخرى حملت ما أمكن حمله من متاع، وأصبحت تتردد على أحد الملاجئ للاستمتاع المؤقت بالنوم، ثم مغادرة الملجأ في النهار، وكان أحد أفراد تلك الأسرة طفلة صغيرة عبرت عن ضجرها بمقامها الجديد بسبب الأصوات التي تصدر من سكان الملجأ، وموظفيه، وقد كانت هذه الأسرة قبل حلول الأزمة تعيش في مسكن تملكه دفعت قسطاً من المال واقترضت الباقي غير أنها عجزت عن السداد فما كان من البنك إلا أن طلب من الأسرة المغادرة، فكان ما كان، وتم إخلاء المنزل، لتجد الأسرة نفسها لا تملك منزلاً ولا تستطيع دفع إيجار شقة بديلة؛ نظراً لصرف ما تم إدخاره كمقدم لشراء المنزل، وما زاد الطين بلة خسارتهم لوظائفهم مما جعلهم عاجزين عن توفير ما يغنيهم عن الملاجئ.
أسرة أخرى ظلت تملك بيتها وهو بيت به عدد من الغرف، وقد خسرت الأسرة وظيفتها ولم يعد لديهم من المال ما يكفي لتسديد فواتير مصاريفهم اليومية، فقاموا بتأجير إحدى الغرف لأسرة أخرى عاشت معهم وحرمتهم من خصوصيتهم، وقد ذكر بأنه يفكر بتأجير غرفة أخرى في منزله لإعانته على بعض مصاريفه.
أسرة أخرى تبيع الزهور غير أن سوق الزهور قد كسد شأنه شأن غيره، فلم يعد الناس قادرين على شراء الزهور واستعاضوا عنها بما يرونه من إنتاج الطبيعة، ذهبت هذه الأسرة إلى أماكن الخيام للعيش فيها، ولم تعد قادرة على توفير غذائها فأخذت تقتات على ما يستغني عنه الناس.
من اللافت للنظر أن أفراداً.. ممن أصابتهم تلك الأزمة بدائها، كانوا يتحدثون بألم ومرارة دون انفعال أو لوم وتحميل الآخرين ما أصابهم، كما أن جلهم يأمل في عيشة كريمة بعد زوال الأزمة، وأيضاً كان العجب أن بعض الأسر لم تخبر أبناءها بما أصابها مفضلة تحمل المشقة والاعتماد على الذات دون نقل المشكلة إلى الأبناء الذين ربما يعيشون المأساة ذاتها، فيحملونهم ما لا طاقة لهم به.
ومما عرضه ذلك البرنامج شركة لإخلاء البيوت التي لم يستطع أصحابها دفع الأقساط المترتبة عليهم، فتقوم البنوك بالتعاقد مع هذه الشركات التي ازدهر سوقها وقد حملت لنا الصور منظراً للمنازل المخلاة، وقد ترك الكثير من الأثاث، وحتى بعض الصور الشخصية، وسبب ترك أولئك النزلاء لأثاثهم عجزهم عن دفع تكاليف تخزين الأثاث فما كان منهم إلا حمل ما يستطيعون والذهاب إلى المخيم أو الملجأ وترك ما عجزوا عن حمله.
أجمع جميع من شملتهم العينة على أن أكثر ما فقدوه هو الاستحمام اليومي الذي اعتادوا عليه، وكذا فقدهم لخصوصيتهم ونمط عيشهم اليومي الذي اعتادوا عليه.
من كل ذلك علينا أن نلتمس العبر، فإن الدنيا لا تدوم، كفانا الله غاراتها وأهوالها، فمن يصدق أن ذلك يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية، وربما يحدث في غيرها الآن، غير أن شفافية الإعلام الاجتماعي في الولايات المتحدة ربما يكون أكثر من غيره.
ومن العبر أن الانفاق من الاقتراض بدرجة تفوق طاقة الأسرة، قد يعرضها إلى الكثير من النكبات، فيكون المآل أمر لا يرتضيه الإنسان لنفسه.
ومن العبر أن حب المظاهر والحرص على تجاوز المعقول في المنافسة الاجتماعية لن يؤدي إلا إلى نتائج وخيمة ستكتوي بها كثير من الأسر.