Al Jazirah NewsPaper Friday  20/03/2009 G Issue 13322
الجمعة 23 ربيع الأول 1430   العدد  13322
توجيهات للشباب: حق الوالدين
د. محمد بن سعد الشويعر

 

لقد عظَّم الله حق الوالدين، وأكّد ذلك رسول الله، فصار حقهما أمراً واجباً واستجابة دينية لله ولرسوله، يقول سبحانه:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ( 23)وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} الإسراء 23-24).

إن للوالدين على أبنائهما حقوقاً كبيرة، ومكانة عظيمة، فهما سبب وجودك أيها الشاب في الحياة،

فكم تعبا من أجلك، وكم سهرا على راحتك، وكم تحملا من العنت والمشقة حتى ترتاح.. لكن العاقل يتألم عندما يقرأ في الصحف نماذج من العقوق، فالحيوانات والعجماوات، تأنف من أعمال تبدر من بعض البشر، وما يعمل ذلك إلا بعض الشباب الذين وقعوا في الموبقات. وما هذا إلا من ضعف الوازع الإيماني، فإذا خف ميزان الدين، أيها الشاب، فإن المرء يتبع النفس هواها، وينفلت الزمام، فيتحمل المرء وزر هذا العمل.

فقد سلط على الشباب مغريات، وبدأ التأثر من جلساء السوء، حيث بدأت - يا معشر الشباب - الموازين تتغير التي بها خفّت عند أجيال هذا الزمان، مكانة الوالدين، وقلَّ عندهم احترامهما، مع أن الله -سبحانه- قد قرن الإحسان إلى الوالدين بعبادته، ونهى أن يبدر من الآداب، أبسط دلائل الضجر (أفٍّ) أو رفع الصوت عليهما أو أحدهما (ولا تنهرهما). وما أكثر ما نسمع ونرى، من نماذج العقوق، بل معاملتهما أسوأ معاملة، فاحذر أيها الشاب أن تكون معيناً على ذلك، وأن تكون ولد سوء، أو داعياً إلى السوء ضد الوالدين مهما بدر منهما، وقابله بالإحسان ولين الجانب.

فقد قرأت في يومٍ واحدٍ، ثلاث جرائد من صحفنا، كل واحدة بها خبر يقشعر منه الجلد، وما كنا نتوقع أن يقدم على مثله إنسان، وفي مجتمع محافظ على قيم وتعاليم الدين الإسلامي التي تحث على رعاية الأبوين وبرهما، والرأفة بهما والحنوِّ عليهما، بعدما أديا أدواراً كثيرة على أبنائهما، ورعايتهم والاهتمام بكل ما يهمهم، عناية طبية وحناناً قلبياً وحنواً ومودة.

فأنتم - معاشر الشباب- عليكم أمانة ثقيلة ويرجى منكم القدوة الصالحة بأبويكم أو أحدهما، لأن المجتمع ينظر إليكم بأن تكونوا دعاة خير، ومعينين على تكوين المجتمع الصالح، المتحاب المترابط، بين أبنائه: مودة ورحمة وتآلفاً ومثالية يقتدى بها.

ففي يوم الثلاثاء 6 ربيع الأول عام 1430هـ كنت أقرأ ثلاثاً من صحفنا، ووقع نظري في كل منها على خبر مؤلم هو الأسوأ، ألا هو العقوق ونكران الجميل، وعصيان الله بحق الوالدين.

الأول: في الصفحة الخامسة من الجزيرة: أقدم شخص اسمه الأول أحمد، سعودي الجنسية، على قتل والده السعودي الجنسية بإطلاق النار عليه إثر خلاف حدث بينهما، وقد أحيل للمحكمة الشرعية، فصدر بحقه صك شرعي يقضي بثبوت ما نسب إليه شرعاً، والحكم عليه بالقتل تعزيراً لكون ما أقدم عليه المذكور يعد جرماً عظيماً وإثماً كبيراً، وشراً جسيماً، لاسيما وأن المقتول والده، وهو سبب وجوده في الحياة (إلى آخر ما في الحيثيات التي توجب قتل هذا الابن العاق الذي لا يندفع شره إلا بالقتل) وقد نفذ فيه الجزاء الذي يستحقه عقاباً من الله.

الثاني: في الصفحة 13 من الوطن: القتل تعزيزاً لقاتل والدته وخادمتها في نجران؛ فقد أقدم شخص اسمه الأول محمد على قتل والدته وخادمتها - وسماهما - حيث قام بإطلاق عدة طلقات من مسدس إثر خلاف بسيط نشب بينهم، وبعد تأكده من موتهما، قام بخلع ملابسهما وتعريتهما بحثاً عما كان يعتقده سحراً تخفيانه، وبإحالته إلى المحكمة العامة، صدر بحقه صك شرعي يقضي بثبوت ما نسب إليه شرعاً، والحكم بقتله تعزيراً، وصدق الحكم من محكمة التمييز، من مجلس القضاء الأعلى، بهيئته الدائمة، وصدر أمر سام بإنفاذ ما تقرر شرعاً.

الثالث: في الصحفة 46 من صحيفة الرياض، خبر عن مغربي يقتل والدته، بطعنات من سكين كانت بحوزته ويطعن شقيقه، ويحرق المنزل، بنار أشعلها في طابقين من المنزل الذي تقيم فيه أسرته، وأحدث هلعاً في الحي، الذي وقع فيه الحادث.

فمثل هذه الجرائم الشنيعة، بحق الوالدين التي أخافت كل ِأسرة، فما بالك أيها الشاب بما تنشره الصحف الأخرى، ألا تدل على أن العقوق قد كثرت، وحقوق الله قد أهدرت. وأنها لاتصدر إلا من قلوب مات فيها الإحساس، وضاع الإيمان، وإذا بحث العاقل في الأسباب، يرى أن وراء ذلك، غزواً مقصوداً به شباب ديار الإسلام، وسلاحه المخدرات والمسكرات التي تسيطر على من يزين له تعاطيها.. فهي تذهب العقل والمال والصحة، وهي من أخطر الأدواء الاجتماعية التي عرفتها البشرية. إنها أخبار مؤلمة، ونتائج مسيئة، تقضي على المعنويات، وتنتهك بسببها الحرمات، علاوة على الصحة والمال والدين.

فإذا عرفت هذه البشاعة الكبيرة، فإنك أيها الشاب عليك أن تتبصر في مثل هذه النتائج، التي تأتي بسبب هذه المؤثرات نماذج أخرى من العصيان والعقوق: وذلك بما طفح على السطح، من كيفية التخلص من الأبوين أو أحدهما عند الكبر، بالتعاون بين الأبناء، وحمل أحد الوالدين، باسم مراجعة المستشفى لعلاجه، ثم يرمى بإسعاف أحد المستشفيات، أو عند باب دار العجزة، ثم الذهاب ليصبح مجهولا، لا يُعرَف وليّه ولا من أودعه.. وقد يكون لبعض زوجات الأبناء دور في التأثير والتبرم، وبعلل أخرى تُبتكر. فاحرص أيها الشباب، أن تأخذ من هذه الأمور عظة وعبرة، وأن تكون أولاً باراً بوالديك، ممتثلا أمر الله ورسوله، ومؤثرا فيمن حولك.. وبعد زواجك اغرس في زوجتك أثر العناية بمن لديك من الوالدين، وبث هذه الروح في الأقرب ثم الأقرب، ومن تعاشر، من زملاء الدراسة والعمل، ومن المعارف والجيران، إنها دعوة خير وفق أمر الله ورسوله.

وكن أيها الشاب نموذجا يُحتذى به، ومؤثرا لا متأثرا بمن لا يرعون هذا الواجب، ومنبها لآثار كل ما يخامر العقل، ويميت الإحساس، ومنوها بمكانة البر للوالدين، ومشيدا بالنماذج، التي تراها في شباب حرصوا على اهتمامهم بالوالدين أو أحدهما سواء كانت هذه النماذج الطيبة من البنين أو البنات، لأن الإشادة بهم، ومدحهم تبعث على التقليد الحسن.

فإذا كنت أيها الشاب، صالحا في نفسك، فحذّر غيرك وبرقّة ولطف، عن المؤثرات التي تدعو للعقوق، وناقش بهدوء وإقناع، الآثار الإيجابية والسلبية في التعامل مع الوالدين، وما يعود على الفرد والجماعة من آثار حسنة في حالة البر وسيئة في العقوق، عند الناس أولا، وعند الله سبحانه أصلاً، وحذّر من جلساء السوء وما يجرهم الشيطان إليه، ليكونوا من أعوانهم..

وعلى كل شاب: أن يعرف منزلته عند الله في الجزاء، بقدر ما أنزل به والداه، ومكانته عند أبنائه، بقدر ما أنزل به والداه. ألم يخبر -صلى الله عليه وسلم-: (بأن الجنة تحت أقدام الأمهات)، وقال وهو يصعد المنبر: (آمين ثلاث مرات) فلما سئل عن هذا؟ قال (أتاني جبريل فقال: رغم أنف امرئ أدرك والديه،أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل آمين؟ فقلت آمين).. ثم ذكر بقية الثلاثة.

فالشباب: ذكوراً وإناثاً، مدعوون للتمعّن في أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووصاياه بالوالدين، التي هي توضيح وتمكين، للتوصيات الكريمات، بحق الوالدين في القرآن الكريم، وبرهما والإحسان إليهما في عشرين موضعاً.

وهذا من الأهمية، فيجب مخاطبة العقول بها، وأخذ هذا منهج عمل وقدوة صالحة، وإشادة في المجتمع، حتى تتأسى القلوب الرقيقة، وتلين القاسية، وتحصل النتائج المرجوّة تدريجاً، فإذا كان أبسط العقوق، التضجر من الوالدين، وأبسط التضجر كلمة (أفٍّ)، قد نهى الله عنها، وأقل أسلوب المخاطبة رفع الصوت عليهما، (فلا تنهرهما). فإن الاقتداء بالأدب القرآني واجب في التعامل مع الوالدين أو أحدهما عند الكبر، لأن هذا الوقت هو زمن حاجتهما للإحسان، لما ينتاب الكبير من ضعف القوى، والأمراض المتتالية، وحاجته إلى من يؤنسه.. فاعمل فيهما خيراً وبراً، تحصد نتائجه عاجلاً في أبنائك.

قال الحسن بن علي -رضي الله عنهما-: لو علم الله شيئا من العقوق أقل من (أفّ) لحرّمه، وعليه في النداء لهما: ألا يسميهما، بل يقول: يا أبت، يا أمي. ومن الآداب مع الوالدين قالت عائشة -رضي الله عنها-: أن رجلا أتى رسول الله، ومعه شيخ فقال له: (من هذا)؟ قال: أبي. فقال له: لا تمشين أمامه، ولا تقعدنّ قبله، ولا تدعه باسمه ولا تستبّ له) رواه ابن مردويه.

وتمعنوا أيها الشباب في أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكثيرة، المبسوطة في كتب الحديث، وفي كتب التفسير، وما فيها من أهمية لرضا الوالدين المقرون بطاعة الله، وسخطهما من سخط الله، وجعل رسول الله برهما أفضل من الجهاد في سبيل الله، إذا قام به ولي ودعا إليه. فقد جاء رجل يبايع الرسول على الهجرة، وترك أبويه يبكيان، فقال له: ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما) رواه البخاري.

نماذج من البر:

أورد السيوطي في تفسيره (الدر المنثور)، قال: أخرج عبدالرزاق في المصنف، والبيهقي عن طاووس، قال: كان رجل له أربعة أولاد ذكور، فمرض، فقال أحدهم لإخوته: إما أن تمرضوه وليس لكم من ميراثه شيء، وإما أن أمرضه أنا، وليس لي من ميراثه شيء.

قالوا: بل مرضه أنت، وليس لك من ميراثه شيء. فمرّضه حتى مات، ولم يأخذ من ماله شيئا، فأتاه في المنام، فقال له: أئت مكان كذا وكذا، فخذ منه مائة دينار، فقال في نومه: أفيها بركة؟ قالوا: لا.

فلما أصبح ذكر ذلك لامرأته، فقالت له: خذها.. فإن من بركتها: أن تكتسي منها، وتعيش منها.. فأبى. فلما أمسى أتى في المنام، فقيل له: أئت مكان كذا وكذا.. فخذ منه عشرة دنانير، فقال: فيها بركة؟ قالوا: لا.

فأصبح فذكر ذلك لامرأته، فقالت له: مثلما قالت في المرة الأولى، فأبى أن يأخذها.

فأتى في النوم في الليلة الثالثة، فقيل له: أن إئت مكان كذا وكذا، فخذ منه ديناراً واحداً، فقال: أفيه بركة؟ قالوا: نعم.

فذهب وأخذ الدينار، ثم ذهب به إلى السوق، فإذا هو برجل يحمل سمكتين (حوتين) فقال: بكم هذا؟ فقال: بدينار، فأخذهما منه بالدينار، ثم انطلق بهما إلى بيته، فلما دخل بيته، شق الحوتين، فوجد في بطن كل واحد منهما درة، لم ير الناس مثلها.

وكان الملك قد بعث من يشتري له درة، فلم توجد هذه الدرة إلا عند هذا الرجل، فباعها له بوقر ثلاثين بغلاًَ ذهباً، فلما رآها الملك، قال: ما تصلح هذه إلا بأخت، فاطلبوا مثلها، وإن أضعفتم، قال: فجاؤوا لهذا الرجل، وقالوا: أعندك أختها لنعطيك ضعف ما أعطيناك؟ قال: أو تفعلون؟ فقالوا: نعم، فأعطاهم أختها بضعف ما أخذوا الأولى.

وأخرج عبدالرزاق في المصنف والبيهقي، عن يحيى بن أبي كثير -رضي الله عنه- قال: لما قدم أبو موسى وأبو عامر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبايعوه وأسلموا، قال: ما فعلت امرأة منكم تدعى كذا وكذا؟ قالوا: تركناها في أهلها، قال: فإنها قد غفر لها. قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: ببرها بأمها. قال: كانت لها أم عجوز كبيرة، فجاءهم النذير أن العدو يريد أن يغير عليكم الليلة.

فارتحلوا ليلحقوا بعظيم قومهم، ولم يكن معها ما تحمل عليه، فعمدت إلى أمها، فجعلت تحملها على ظهرها، فإذا أعيت وضعتها، ثم ألصقت بطنها ببطن أمها عن الحرّ، وجعلت رجليها تحت رجلي أمها من الرمضاء حتى نجت).

وهذا من عملها في برّها بأمها، بعد ما ثقلت هذه الأم من الكبر.

الدرُّ المنثور في التفسير المأثور 5:268 - 269)




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد