منذ سنوات كنت أذهب في أوقات الفراغ إلى جمعية الثقافة والفنون، التي ماتت الآن ولم يبق إلا إعلان مراسم أو مواعيد دفنها. لقد ذهلت عندما اكتشفت أن هذه الجمعية كانت أشبه بمكتب استقبال للجاليات، مع الأخذ بالحكمة الروسية القديمة (وضع الصوف على عيون الأجانب)، والصوف هو الثوب والغترة والعقار، أما ما تحته فهو خليط، وكان هؤلاء يديرون الأعمال اليومية للجمعية بما فيها الحراسة وتقديم الشاس والأرشيف والسكرتارية.. وغير بعيد عن هؤلاء ستجد الفنانين: الموسيقار والرسام المسرحي والممثل والكاتب والمغني، وهؤلاء طبقات بعضهم انقطع به الطريق وبعضهم يبني طريقه بهدوء وسكينة وبعضهم كالشهب، هؤلاء يعملون في الجمعية برواتب أو مكافآت تندرج من ألفي ريال وحتى ألف وخمسمائة ريال شهرياً، بعضهم يحرص عليها ويترقبها ليصرفها على العيال وبعضهم من الحالمين الذين يقدرون قرش الإبداع بعشرة قروش وبعضهم من هواة الفن للفن، لا يفكرون في هذه المكافأة وهم يعملون ومع ذلك كانوا يجدون الأمرين من الروتين القاتل وفرقة الجاليات!.
ما هو في الرياض، هو في جدة والإحساء والدمام وحائل والطائف، كلهم يعملون لأنهم يعشقون العمل، وكلهم يقبضون نفس الماهية (وهو لفظ لئيم وقاس يرمز للمهانة!).
تغيرت الأمور في جمعية الثقافة والفنون، فحلّ طاقم جديد مكان الطاقم القديم!.. ومن هذه التغيرات إطلاق مجموعة من الجمعيات (وهي طريقة تشبه تفتيت الاتحاد السوفيتي!)، فهناك الآن جمعيات للمسرحيين والفوتوغرافيين والتشكيليين و.... إلخ، ولم يبق إلا أرباب الغناء والموسيقى والتمثيل!.
من بين أنصار الفن للفن، الذي نذروا مواهبهم ووقتهم للجمعية عمر كدرس الملحن الذي يشبه الوقود النظيف فإضاءاته تحيل الظلمة نهاراً وصوته من تلك الأصوات النحاسية التي تحيل النيام إلى كائنات أخرى.. مات هذا الملحن والمغني الموهوب الذي فرخ عشرات الألحان والمطربين والمطربات في وضع يشبه الفاقة أو الإفلاس المادي، لكن نفسه الأبية ساعدته على الصمود حتى مات كما تموت الأشجار واقفةً!.
ومن هؤلاء صوتنا النادر (طلال مداح) الذي انتهى رغم مواهبه في التلحين والغناء، موظفاً عند شركة كاسيت يقبض راتباً شهرياً نظير مجموعة أغنيات يقدمها سنوياً، وبنى له أهل الخير منزلاً يقيه مذلة وقوف صاحب العقار طالباً أجرة السكن. (هناك الآن أصحاب أصوات يتقاضون الملايين ولديهم القصور واليخوت والسيارات مع أن أصواتهم مجردة تشبه أصوات بقبقة الضفادع!).. ومن هؤلاء من تولى ورثتهم دفن أصواتهم مع أجسادهم إلى الأبد، مثل فوزي محسون ومحمد علي سندي.
عندنا الآن (سراج عمر) الموسيقار والمغني الذي نذر نفسه لتقديم فن نظيف وراق، هذا الفنان بلغ سيله الزبى، فهو ليس ثرياً ليقدم الهدايا للمطربين لغناء ألحانه.. وهو ليس ثرياً ليتفرغ في منزله للتأليف الموسيقي، هو إنسان بحاجة لمنزل راق ومكتبة منظمة ودخل جيد ليقدم أعمالاً يرضي عنها.. عندما لم يجد كل ذلك بدأ في ترحيل مقتنياته من الألحان إلى مقالب الزبالة وكان يقدمها للزبال بالتقسيط كأنه يقدم لحمه قطعة.. قطعة!.
لو كان أرباب الموسيقى والغناء والتشكيل مثل أرباب الكرة هل كانوا كذلك؟.. للأسف لا!.
* فاكس: 012054137