من حكمة القدماء أنهم ينبهون حين توجيه لأن لا يتحدث المرء في غير ما يعرف، فإن كان في مجلس فإن لكل مجلس جليساً ومقاماً، وكثيراً ما ذهب التأويل لمعنى المقام هنا للوضع الاجتماعي أو العمري، بينما المقامات مراتب عقلية، ومقام العقل سمة يتزيا بها الجالس، أينما كان، وبه تتصف المجالس..
لذا فعلى المرء أن يتخاطب مع الجالسين على قدر عقولهم، وفيما يفهمون، وقدْر العقل وفهمه هو معرفة لغة لسان الجالس فيتحدث إليه بها لتمام التواصل، وفي ذلك حثٌّ على تعلم اللغات ليتحقق التواصل لأن التواصل هنا يتم عن الفهم وهو من مراتب العقل..، فأبناء اللغة الواحدة هم أصحاب لسان واحد لذا يجتمعون على فهم مصطلحات تراكيب كلامهم ومعانيه ويذهبون لفهم دلالاته ولكن على قدر مراتب عقولهم، فإن لم يكن أحدهم من أصحاب اللسان ذاته يفقد التواصل لعجزه عن الفهم لمعاني ما ينطق به لسان الجالسين، وهو حاجب لعقله عن فهم ما يدركه أصحاب اللسان الواحد، فإن توجه إليه أحدهم بلسانه فتلك إزاحة للحاجب عنه،..
والناس تأخذ بمدلول مخاطبة الآخر على قدر عقله جانباً واحداً وهو مرتبة فهمه بينما الجزء الثاني هو توحد لسانه..
دعاني لهذا ما نسمعه من هدر لا يدرك جالسون كثر في مجالس مختلفة لا لغة ألسنتها, ولا لغة إفهامها, أي لا تواصل ولا تراتب,.. فهل تستدعي دولبة الحياة المعاصرة أن تطوح بمستوى العقول بمثل ما تعجن الألسنة في مزيج غير متجانس؟ بحيث يلغى ميزان التخاطب على قدر العقول؟. غالباً ما نزداد إشفاقاً بالمعاصرين من الناشئة الذين لم يتحصن إدراكهم لكل ما يجري في الحياة من حولهم لا بحجة اللسان بلغتهم، ولا بحجة العقل بمداركهم..، ولعل التفاتة للكثير من حكم الخبيرين في الحياة ضرورة, لتهيأ لهم الحياة.. كي يعيشوا وهم يصنعون مقامات المجالس حيث يظهرون.