يروى أن أديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي مؤلف (وحي القلم) و(تحت راية القرآن) و(السحاب الأحمر) و(على السفود)، الذي كان في حياته ملء السمع والبصر شهرة وعطاء بأسلوبه الرفيع وشعره البديع وردوده ومنافحاته عن لغة البلاغة والفصاحة لغة القرآن وإعجاز القرآن ومؤلفاته الرصينة العديدة في شتى فنون الأدب والنقد.. هذا الأديب وكما أشار إلى ذلك الأستاذ محمد سعيد العريان في كتابه (حياة الرافعي)، عندما مات قبل ستين عاماً في مسقط رأسه طنطا بمصر مات ميتة الغرباء شبه المجهولين؛ فلم يحضر جنازته ويصلي عليه سوى نفر قليل هم جيرانه وبعض معارفه، وتم تعليل ذلك في حينه بأنه علامة جحود وإرهاصات لنضوب معين الوفاء وغروب شمس الشهامة وتهميش لدور رجال القلم المخلصين والتفاف الناس حول أصحاب المراكز والوجاهة والنفوذ وطغيان صيغة النفاق التي بدأت تسود وتطبع العلاقات والتعامل بين الناس وفق المصالح المادية. هذا ما كان سائداً في منتصف القرن الهجري الماضي إبان وفاة الرافعي، فما بالك في زماننا هذا؛ حيث يعيش الأديب العف النزيه والإنسان المخلص شبه مجهول القدر، أما في أموره الحياتية والمادية فهو في أحسن الأحوال والظروف يعيش مستور الحال. جالت هذه الخواطر في نفسي وتهافتت تلك التعابير من أعماق ذاكرتي وأنا ألمح في مسلسل الذكريات مثلاً آخر من بيئتنا ومحيطنا القريب في مجال العلم والأدب نفسه، بل يضاف إليه مجال التربية وميدان العمل الإداري الناجح والتضحيات الجسام في أداء الواجب وخدمة الوطن، فقد كان بيننا وإلى ما قبل ثلاثة عشر عاماً تقريباً مربٍّ جليل وأديب وشاعر كبير وإداري حكيم ومسؤول حصيف الرأي والمنطق من القلة القليلة النادرة في التضحية، كان طيلة حياته في الدراسة والعمل مثال الرجل المخلص، تسنم أرفع المناصب في محيط دائرته وتخصصه فأبلى بلاء حسنا، وكانت له جهود لا تُنسى في الارتقاء بمستوى العمل والإنتاج والعطاء في الوزارة الأم التي عمل بها طيلة حياته (وزارة التربية والتعليم)، وأفنى بها زهرة أيام حياته من مدير مدرسة ثانوية إلى مدير تعليم في أكبر منطقة إدارية وتعليمية ومن ثم مدير عام للتعليم بالوزارة إلى أن أصبح وكيلاً للوزارة للشؤون الثقافية، ولكن عندما باشر عمله وبدأ يخطط لإعطاء هذه الوكالة الدور المنتظر منها لرعاية شؤون الثقافة وتطوير المكتبات ورعاية الآثار وجميع ما يتعلق بشؤون الثقافة وتفرعاتها في هذه الفترة صدرت نظم غريبة وعجيبة تم على أثرها إلغاء وكالة الوزارة للشؤون الثقافية؛ الأمر الذي بالتأكيد سيصب في تهميش الواجبات المطلوبة من الإدارات والأقسام التابعة لها. إثر ذلك وبسبب هذه الظروف المثبطة التي كانت ربما إرهاصات لسنوات التعليم العجاف القادمة طلب التقاعد قبل بلوغه السن النظامية وانسحب من الساحة مكرهاً براتب متواضع، وعاش في أواخر حياته من وجهة نظري يتجرع مرارة الجحود الذي لقيه حيث لم يوفَّ حقه، وعندما مرض ومات لم يعلم عن ذلك سوى أقربائه وبعض محبيه.. وكان رثاء أحد زملائه من تلاميذه سابقاً وهو الدكتور سعيد المليص في إحدى الصحف فأل خير لمحبيه؛ حيث رثاه بعد ذلك المترددون وقلة من الزملاء، وأصدق ما كتب عنه بعاطفة جياشة وإفاضة معبرة ومشاعر صادقة وبإسهاب وأسلوب هادف مسدد نابع من القلب هو ما كتبه زميله في بواكير حياته العملية الشاعر الأديب عبدالله بن إبراهيم الجلهم وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية المساعد سابقاً. وقبل أن نسترسل ونواصل الحديث يجب أن تعرفوا من هو صاحبنا، إنه المربي الكبير والمسؤول القدير الراحل سعد بن إبراهيم أبو معطي.. لقد رأيت بأم عيني فصولاً من سيرته ومسيرته نابضة بالعطاء المثمر والوهج الساطح؛ لأن خدماتي على مدى أربعة عقود كلها بوزارة المعارف، وقد عايشتها عن كثب، لاحظت حضوره المبكر إلى مكتبه ومواظبته على العمل، يندر أن تراه عند الحضور أو الانصراف لا يحمل ملفاً كبيراً يتعلق بعمله.. يحضر ليلاً إلى مكتبه معظم أيام الشهر ودون مكافأة، لقد عرفت عنه وعرف عنه الكثير صدق التعامل مع مراجعيه وكرمه الفياض في إعطاء المشورة والتعاون المثمر مع الآخرين في كل ما ينهض بالتعليم.. لقد قال لي ذات يوم سعادة الأستاذ عبدالله بن محمد البليهد الذي عمل في الوزارة قرابة أربعة أعوام، بعد حصوله على الماجستير في الإدارة من أمريكا، مديراً عاماً مساعداً للشؤون الإدارية بالوزارة ومن ثم مديراً عاماً للتخطيط قبل انتقاله لإمارة الرياض قبل ثلاثين عاماً.. قال لي أبو محمد أنه عندما تم تكليفه مديراً للتخطيط بالمعارف التفت يمنة ويسرة من أجل طلب وحصر بعض المعلومات الضرورية التي تنتظرها وتحتاجها هذه الإدارة الوليدة لتقوم بواجباتها المنتظرة، وقتها كان الأستاذ سعد أبو معطي أول من بادر بتزويد إدارة التخطيط بالمعلومات الوافية والإحصاءات المهمة كتبها بخط يده موثَّقة بالمعلومات المطلوبة عن احتياج الوزارة من المدارس والمباني المدرسية والنمو المنتظر وجميع ما يحقق متطلبات ومستقبل التعليم من معلمين ووسائل تعليمية، وكانت هذه المعلومات الدقيقة والموثقة خير سند ورافد في هذا المجال.. كان يرحمه الله مع إخلاصه في عمله رجلاً منصفاً وحازماً في نفس الوقت، لا يجامل في سبيل المصلحة العامة، وفي سلوكه تبدو الحكمة وحُسن التصرف، دخل عليه ذات يوم أحد الأشخاص ممن يرى نفسه من كبار الأدباء ومن موظفي الوزارة، وجلس وكان الأستاذ سعد منهمكاً في الكتابة وسماعة الهاتف على كتفه مسترسلاً بالحديث مع طرف آخر بشؤون العمل، وعندما انتهى من المحادثة وقف هذا الرجل وخاطب أبو معطي قائلاً: إن فلاناً وذكر اسمه تقدم إليكم للاشتراك بتأليف بعض مقررات اللغة العربية وأنا تخرجت قبله من الكلية والمفروض أن أحل محله في اللجنة. رد عليه الأستاذ سعد بكل هدوء وقال له: اكتب وجهة نظرك ولا تنل أحدا أو تعرض باسمه. فسكت هذا الموظف ولم ينبس ببنت شفة وسل نفسه من بين الحضور وخرج وكأني به يتجرع مرارة الندم، وقلت في نفسي وكنت أحد الحضور: سبحان الله هذا الموظف يفتخر بأدب النقل، وهذا المسؤول الحصيف يطبع سلوكه أدب العقل. التقيت به يرحمه الله في أواخر أيامه بطريق الصدفة، ورأيت اعتلال صحته وضمور جسمه، فقلت له مازحاً: ماذا فعلت بك الأيام؟ قال كما ترى. قلت له وأنا صادق في قولي (هذا ثمن التضحية). هذه لمحات سريعة وإلمامات عاجلة أو كما يقال جذاذات من صفحات حياته الحافلة بالعطاء. وحتى نبقي نافذة لأجيالنا للاطلاع منها على تاريخ رواد نهضتنا التعليمية أتمنى على وزارة التربية والتعليم أن تبادر بتسمية إحدى المدارس الكبيرة أو المكتبات الرئيسية أو المراكز الثقافية باسمه ومعه أمثاله من رعيل الرواد الأوائل جيل التأسيس والبناء والتطوير. والله من وراء القصد.
عبدالله الصالح الرشيد
للتواصل: ص ب 27097 الرياض 11417