قبل أن نبدأ العتاب، أو بالأحرى قبل أن نختلف في وجهات النظر فيصب أحدنا جام غضبه على الآخر، وما أعظم قدرتنا في هذا المجال؛ فحمم القلم على أهبة الاستعداد، والشبكة العنكبوتية والصفحات الماكرة جاهزة لتنقل السموم بين الأطراف المتناحرة! وبركان اللسان ينتظر غمزة عين، والفضائيات تبذل الغالي والنفيس لاحتضان سلاطته وفجوره! وسبابة اليمنى أو اليسرى على زناد الخيبة والفشل تترقب لحظة المواجهة!
فنحن يا صديقي (الودود أو اللدود؛ لست أدري) في عصر يشهد رحيل أو احتضار الكثير من المبادئ والقيم؛ حتى المقولة التي كنا نتباهى بعقلانيتنا ونحن نرددها وهي (الاختلاف في وجهات النظر لا يفسد للود قضية) تكاد تموت إن لم تكن ماتت بالفعل!
لذلك، وقبل أن نفتح جبهة فلسطينية أخرى، أود أن نتفق ولو لدقيقة واحدة فقط؛ نسجل في نصفها الأول تحية المجد والفخار لما أنجزه أبطالنا المقاومون المجاهدون المرابطون على ثغور غزة من نصر حقيقي غير قابل للطعن! ونقر في نصفها الآخر أن كفانا ما بلغناه من ضياع، وما أضعناه من حقوق، وما حققناه للعدو من مكاسب عظيمة بسبب ما نحن فيه من شقة وخلاف!
أما التحية فلشعبنا العظيم النازف الذي واجه أعتى القلوب حقداً وأشد الأسلحة فتكاً بما اعتمر قلبه من إيمان، ثم بما استطاع أن يعده من قوة؛ عملاً بقوله جل شأنه {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ...}(سورة الأنفال؛ الآية 60)!
نعم، التحية هنا واجبة لقوم آمنوا بربهم فأفلحوا وحُق لهم أن يفرحوا! ألا فلكم التحية أيها الأبطال وأنتم تروون الأرض بدمائكم، لكم التحية وقد جعلتم أفئدة العالم بأسره تنادي: (بالروح بالدم نفديك يا غزة)، لكم التحية وعدوكم يجر أذيال خيبته مهزوماً مدحوراً وأذنابه من خلفه!
لك التحية يا شعبنا الصامد المحتسب وأنت لا يهدأ لك مقام ولا يهنأ لك طعام! لك التحية بحجم صبرك وتضحياتك! لك التحية وأنت تهتف بأن نعم (لا يضرنا من خذلنا) فتُعلِّم الدنيا بأسرها معنى الصمود، ومعنى التحدي، ومعنى الفداء، من أجل استعادة الأرض ونيل الحرية وكل الحقوق! لك التحية وأنت تلقن العدو درساً أنّ مكانه ليس هنا، وأنّ عليه العودة من حيث أتى! ولك التحية وأنت تكظم الأسى، وتطبب نزف طعنةٍ من أخٍ ضل طريقه فأصابه العمى! ماذا أقول وقد تقزمت الحروف أمام عزة نفسك وشموخ هامتك!
وأما كفانا ما بلغناه من ضياع، فأبدأ بالإعلان عن موقفي الثابت المطالب بعدم التخلي عن كون (منظمة التحرير الفلسطينية) بيتاً للشعب الفلسطيني كله دون استثناء، وعن كون ميثاقها شريان حياتها وسر بقائها! وأثني بوضع كفَّ يميني على موضع القلب من صدري احتراماً وعرفاناً لهؤلاء الأحرار الذين شيدوا قواعد هذا البناء ورسموا أهدافه وحددوا مساراته ومهماته! فما من أحد إلا وينظر إلى (منظمة التحرير الفلسطينية) ونشوة الاعتزاز تغمره لما حققته من إنجازات عظيمة عبر تاريخها الطويل الممتد من عام 1964م حتى عام 1982م!
بالطبع لم تمت (منظمة التحرير الفلسطينية بعد عام 1982م، إلا أن أحداث عام 1982م وما نتج عنها من تداعيات أليمة أربكت العمل الفلسطيني وأضعفته، ثم جاءت أحداث عام 1990م لتصاب (منظمة التحرير الفلسطينية) بضربة موجعة أفقدتها الكثير من مكانتها فلسطينياً وعربياً وإسلامياً وعالمياً، ولا حاجة هنا لتقليب المواجع، وأكتفي بالقول: إن الموقف الرسمي الفلسطيني في ذلك الوقت أحدث جرحاً غائراً في أحد أهم أساسيات (الميثاق الوطني الفلسطيني)، وأشير هنا إلى المادة الثانية عشرة التي تقول: (الشعب العربي الفلسطيني يؤمن بالوحدة العربية ولكي يؤدي دوره في تحقيقها، يجب عليه في هذه المرحلة من كفاحه الوطني أن يحافظ على شخصيته الفلسطينية ومقوماتها، وأن ينمي الوعي بوجودها، وأن يناهض أياً من المشروعات التي من شأنها إذابتها أو إضعافها)! وبدلاً من الرجوع إلى الحق انصرف الاتجاه نحو البحث عن مخرجٍ في مسار آخر يفضي إلى كسب ود العدو الذي كعادته يحظى بالتأييد المطلق أمريكياً وأوروبياً، ليبدأ مسلسل التراجعات والتنازلات بدءاً من الهرولة إلى مؤتمر مدريد الاستسلامي عام 1991م، ووصولاً إلى ما نحن فيه اليوم من ضعف وهوان، ومروراً بالمباحثات السرية المتسارعة المنتهية باتفاق أوسلو عام 1993م الذي طعن الانتفاضة الأولى في مقتل، وأعطى الضوء الأخضر للمهرولين للتطبيع المجاني مع العدو! ومن ثم تواصلت المفاوضات والاتفاقيات، ويا لها من مشاهد مظلمة كئيبة تنتقل بالشأن الفلسطيني من سيئ إلى أسوأ مع كل اتفاق؛ أذكر من هذه المشاهد اثنين فقط؛ الأول: مشهد الوقت الذي مضى على يد الرمز الفلسطيني ياسر عرفات وهي ممدودة في انتظار الصهيوني الحاقد اسحق رابين ليتلطف بالموافقة على مد يده مصافحاً! والثاني: مشهد الانكسار المرافق لكتائب شهداء الأقصى وهي تسلم أسلحتها للسلطة الفلسطينية بعد رحيل أبي عمار؛ رحمه الله، على اعتبار أن غصن الزيتون وحده يكفي!
وبينما كان الجانب الفلسطيني موغلاً في متاهات الرئيس كلينتون الذي استطاع بابتسامته الماكرة أن يستل المكونات الأساسية الأخرى للميثاق الوطني الفلسطيني، ومرتمياً في أوهام الرؤية المستقبلية لسيئ الذكر بوش، ومنهمكاً في دراسة التنازلات التي عليه أن يقدمها للعدو، كان العدو يواصل تنفيذ مخططاته داخل فلسطين وخارجها على نحو متواز؛ والأمر هنا واضحٌ لا يحتاج إلى شرح!
وبعيداً عن الخوض في التفاصيل الأخرى الموجعة، أؤكد أنه لا اختلاف مطلقاً على (منظمة التحرير الفلسطينية) ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، وإنما الاختلاف على إدارة الظهر عن استعادة ما سلب من (الميثاق الوطني الفلسطيني)! وعن الشروع في ترميم أركان (منظمة التحرير الفلسطينية) وتشكيل هيئاتها ومؤسساتها وتفعيل اختصاصاتها بموجب النظام الأساسي لهذا البيت الذي يجب أن يكون (كما قال عرفات) دحديرة الشعب الفلسطيني كله!
واليوم، وبعد النصر الذي أكرمنا به الله في غزة، هل سنبقى على حالة الاختلاف رغم ما أصابنا من انقسام! وهل سنبقى على حالة الاستسلام للعبة المفاوضات رغم ما أصاب شعبنا وقضيتنا وتاريخنا من تدهور وتقهقر على مدى العقدين الماضيين!
وهنا، وبوصفي صوتاً فلسطينياً مسموعاً (أو هكذا يجب) بموجب المادة الرابعة الواردة تحت بند المبادئ العامة للنظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي تؤكد أن الفلسطينيين جميعاً أعضاء طبيعيون في منظمة التحرير الفلسطينية يؤدون واجبهم في تحرير وطنهم قدر طاقاتهم وكفاءاتهم، وأن الشعب الفلسطيني هو القاعدة الكبرى لهذه المنظمة، أجيب: ب(لا للانقسام)! و(لا للتخلي عن (منظمة التحرير الفلسطينية))! و(لا للمساس بشريانها؛ (الميثاق الوطني الفلسطيني))!
وأخيراً (لا لتكرار تجربة التفاوض) مع عدو ماكر مماطل مخادع لا عهود له ولا مواثيق؛ عدو لا يُقبل نحونا إلا حينما يدرك أن قوته لم تسعفه لنيل مراده منا، ولست في حاجة لسرد الأمثلة؛ ولنتأمل حصاده خلال العقدين الماضيين؛ مستوطنات، وجدار، وأسرى زاد عددهم عن أحد عشر ألف أسير، وأعلام صهيونية ترفرف في أجواء عواصمنا العربية والإسلامية!
فالتفاوض مع هذا العدو واحتضانه وتقبيله ومصافحة يده المتلطخة بدمائنا، لن يحرر الأسرى! ولن يهدم الجدار! ولن يفكك المستوطنات؟ ولن يحرر الأرض! ولن يعيد الحقوق! فما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة؛ قوة الإيمان وقوة الإعداد!
وفي هذا السياق لابد من استعادة شخصيتنا الفلسطينية المستقلة والمتصلة بعمقها العربي وحضنها الإسلامي!
ولابد من وقفة صادقة مع حقيقة ثابتة تؤكد أن هؤلاء الرجال الأفذاذ الذين أسسوا (منظمة التحرير الفلسطينية) وشكلوا ميثاقها الوطني، ليسوا حالة استثنائية من هذا الشعب، ففلسطين أرض الرباط وأرض الإنجاب!
وحمى الله أطفال فلسطين وزادهم إرادة ويقيناً وعزة، ومن بينهم الطفلة الفلسطينية المنتصرة (ألماظة السموني)؛ التي ربما لم تتجاوز الأحد عشر ربيعاً، والتي خرجت من بين الدمار لتروي بثبات أسطوري قصة استشهاد تسعة وعشرين شهيداً من أفراد عائلتها أمام عينيها إبان الحرب الصهيونية الحاقدة على غزة، ويا لسمو قامتها وهي تضم قبضتها وتقول: (سنبقى صامدين صابرين.. حتى لو عادوا مرة أخرى.. سنبقى صامدين في هذه الأرض.. إنها أرض المحشر والمنشر)!
لعمري إنه إلهام إلهي لقول فصل!
aaajoudeh@hotmail.com