ذكر في السيرة النبوية (أن هناك رجلاً من بني إسرائيل كانت له زوجة حسنة جلس معها ذات يوم ليأكلا وكان بجانبهما دجاجة مشوية، فطرق الباب طارق، فقال الرجل: من الطارق؟ قال: مسكين، فقالت الزوجة أأعطيه بعض الدجاجة؟ قال زوجها: لا لا، ونهر المسكين وطرده عن بابه! ومرَّت الأيام وافتقر ذلك الرجل وطلق زوجته من أجل الفقر؛ وتزوجت بعد الطلاق بغيره، وجلست مع زوجها الثاني، وكان بجانبهما دجاجة مشوية، فطرق الباب مسكين، فقال لها زوجها: خذي الدجاجة كلها فتصدقي بها، فلما دفعت بالدجاجة إلى المسكين السائل البائس رجعت (باكية العينين، صادعة الفوائد) فقال لها زوجها: أتبكين لأننا تصدقنا بدجاجة؟! قالت له: لا، قال: فلماذا تبكين؟ قالت له: ألا تدري من السائل؟ قال لها: لا، قالت: إنه زوجي الأول، قال لها: وهل تدرين من أنا؟ أنا السائل الأول).. فانظر كيف غيَّر الله حال الأول فأفقره، وغيَّر حال الثاني فأغناه، فالأيام دول والأحداث عبر (وإذا جادت الدنيا عليك فجُد بها على الناس، واعلم أنها تتقلب، فلا الجود يُفنيها إذا هي أقبلت، ولا البخل يبقيها إذا هي تذهب) لا تهن الفقير؛ علك أن تركع والله قد رفعك!!، إن الفقر معرة إذا لصقت بالإنسان أحرجته، وهبطت به دون المكانة التي كتب الله للبشر، وإنها لتوشك أن تحرمه الكرامة التي فضل الله بها الإنسان على سائر الخلق، وإنه لعزيز على النفس أن ترى شخصاً مشقوق الثياب، تكاد فتوقه تكشف سوأته، أو حافي الأقدام أبلى أديم الأرض كعوبه وأصابعه، أو جائعاً يمد عينيه إلى شتى الأطعمة ثم يرده الحرمان وهو حسير.
لا يوجد في الدنيا -ولن يوجد- نظام يستغني البشر فيه عن التعاون والمواساة، بل لا بد لاستتباب السكينة، وضمان السعادة من أن يعطف القوي على الضعيف، وأن يرفق المكثر بالمقل، وما نزل البلاء ولا دارت الدوائر ولا حلت السنن بأهلها إلا بعد أن تحجرت أفئدة عن مشاعرها وجفت عيون من مدامعها فلا تتأثر لفاقة مسكين، ولا تتوجع لنكبة منكوب ولسان حالها (إنما أوتيته على علم عندي).. إنه التنكر للفضل، والتعالي على الحقيقة؛ فكان العاقبة (فخسفنا به وبداره الأرض) من أجل هذا وذاك ما أجمل أن يشملك الله برحمته حين يجعلك أهلاً للمعروف وباباً يقصده السائلون. ومن كثرت نعم الله عليه كثر تعلق الناس به؛ فإن قام بما يجب عليه فقد شكرها وحافظ عليها، وإن قصَّر وملَّ وتبرَّم فقد عرَّضها للزوال ثم انصرفت وجوه الناس عنه، ففي الحديث: (إن لله أقواماً اختصهم بالنعم لمنافع عباده، يقرّها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحوَّلها إلى غيرهم)، صفو العيش دائماً لا يدوم، وإن متاعب الحياة ليست حكراً على أحد دون أحد، فإنما هو ابتلاء وامتحان أيكم أحسن عملاً.
Saad.alfayyadh@hotmail.com