ما الحياة إلا سلسلة ابتلاءات لا تنتهي إلا بانتهاء عمر الإنسان، والابتلاء الإلهي لعباده يكون بالشر والخير معاً، فالإنسان المؤمن إما صابر أو شاكر، وبالتالي مصيره إلى خيري الدارين وسعادتهما، أما غير المؤمن فإنه يفتتن في دينه ودنياه، وينكص على عقبيه جازعاً قانطاً معترضاً ومتوهماً أن الابتلاء قد استهدفه وحده دون سواه، أو مع قلة تعيسة مثله، مع أن الله تعالى يقول: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}، لكن ماذا نقول عن النظرة البشرية القاصرة؟.
ولقد ذقت مرارة الابتلاء مراراً وتكراراً كما ذاقه غيري، ولكنه يكون أحياناً أشد إيلاماً من غيره، فقد فجعت مؤخراً بأحب الناس إلى قلبي، وأقربهم إلى نفسي، وألطفهم تعاملاً معي ومع غيري، إنها عمتي التي ربتني وأنا صغيرة هي وجدتي، واحتضنتاني منذ كنت رضيعة، بحنوهما وحنانهما النادرين في زمن القسوة والجفاف والشح العاطفي.
افتقدت عمتي التي احتوتني طيلة عمري منتشلة إياي من معاناة اليتم وفقد الأم، دون طمع في أي جزاء أو شكوراً إلا من رب العالمين ثم المودة في القربى، وقد كنت أتوهم أني وحدي التي أتجرع ألم فقدها، لكني وجدت الناس منذ وقت الصلاة عليها وهم يعزون أنفسهم فيها بدلا من أن يعزوننا، يشهد على ذلك الحضور الكثيف المهيب في المسجد ساعتها، رغم قصر الفترة بين وفاتها والصلاة عليها.
لقد أخبرنا تعالى في الحديث القدسي بأن خلقه هم شهداؤه في أرضه، وهذا ما أشعرنا بالطمأنينة ونحن نرى جميع من عرفها، أو ناسبها، أو جاورها في أية فترة من فترات عمرها، أو تعامل معها أو رآها ولو لمرة واحدة فقط، قد سارع للصلاة عليها أو للتعزية فيها وهو يجزل الثناء عليها، فأنسابها ونسيباتها يقولون: لقد كسبتنا بحسن الخلق، والأبعدون يرددون: بأنهم إنما أحبوها لدينها القويم الذي يجمع بين العمل والتعامل، والأقربون بكوها مفتقدين ديمومة حنوها وعطاءها المتدفق.
ليت الذين يتوهمون أن الشخصية المهابة إنما تكون في تجهم الوجه، أو تصعير الخد، أو المسارعة في الانتقام للذات بقول قاس أو فعل سلبي، أو مقاطعة متهورة، ليتهم يعلمون حق العلم أنهم قد جانبوا الصواب الديني والدنيوي، حيث كان لا يسعدها -طيب الله ثراها- أن تثأر لذاتها أو أن تؤدب غيرها، ومع ذلك فقد ازداد لها الناس احتراماً وحباً، وبها إعجاباً وتعلقاً.
لقد كانت تعطي ولا تأخذ، تنصت ولا تقاطع، وتمحض النصيحة بإخلاص منقطع النظير، وتتعاطف مع مشاكل غيرها بصورة لا تكاد تصدق، وتتابع معهم حلولها حتى النهاية، وتكتم سر غيرها حتى عن أقرب الناس إليها وأكثرهم كسباً لثقتها، نابذة الغيبة والنميمة من كل حياتها، لأنها تراقب الله تعالى وتخشى عقابه، ثم لأنها تشعر أن الجميع أحباب لها فلا تريد ظلمهم ولو بكلمة، إضافة لقناعتها التامة في الوقت ذاته بأنها لا تريد أن تفقد أعمالها الصالحة التي دأبت عليها طيلة فترات عمرها حتى في عز مرضها.
عمتي الكريمة المضيافة التي فتحت بيتها للجميع بكرم بالغ في كل الأوقات حيث يعتبر الجميع دون استثناء -حتى لو كانوا أغرابا- بأن منزلها هو بيت العائلة الذي يشعرون فيه بالدفء والحنان والتراحم والأريحية والراحة، حتى في أيامها الأخيرة وهي ترقد في المستشفى وبعد أن فقدت الوعي تقريباً نسمعها تطلب من بُنيّاتها أن يقدمن العشاء والمشروبات للضيوف والممرضات متوهمة أنها في منزلها، أولئك الممرضات اللاتي تقول حتى أخشن واحدة فيهن: أنني حينما أرى ابتسامتها الودودة ووجهها الطيب المتسامح أشعر أني أرغب في خدمتها من أعماقي.
كانت دائماً تكرر الدعاء النبوي القائل: (اللهم نقني من ذنوبي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس)، فكنت أقول لها مداعبة: كلما قلت هذا الدعاء يا عمتي الحبيبة تدخلين بعده للمستشفى، وكانت ترد فورا: اللهم آمين أساله أن يطهرني كما يطهر الثوب الأبيض من الدنس، فأقول لها: هل تعلمين أن تنظيف اللون الأبيض أصعب من بقية الألوان، لذا فإن نظافته إنما تكون دقيقة ودائمة لأن أقل دنس يظهر فيه بوضوح وسهولة، حتى أنني حينما أدعو به مثلك أصاب بوعكة قوية جسدية أو نفسية، ومع ذلك فكانت -رحمها الله- تكرره دائماً، لأنها تشتري دار البقاء لا دار الفناء، جعلها المولى من أهل الفردوس وجزاها عنا وعن الجميع بخير الجزاء.
لقد جاء عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار، قيل: بم يا رسول الله؟ قال: بالثناء الحسن، والثناء السيئ) رواه أحمد وابن ماجه. فنرجو أن تكوني (يا عمتي سارة بنت محمد يا أم عادل) ممن زكاهم الصالحون والصالحات، وزكاهم الله تعالى فيمن عنده، فأصبحت راضية مرضيا عنك يا صاحبة النفس المطمئنة التي تحتاج صفاتك القدوة لصفحات وصفحات، ولكن حسبي للتذكرة هذه الكليمات المعدودات.
g.al.alshaikh12@gmail.com