التفكير الفلسفي ليس احتكاراً للفلاسفة, وليس محصوراً في المشتغلين بالفلسفة, بل كل إنسان بآلية أو بأخرى هو فيلسوف, كل إنسان له فلسفته الخاصة, وتمر عليه لحظات في حياته يكون فيها فيلسوفاً يمعن المعاينة وينعم التمعن ويحاول التّماس مع أعماق الأشياء.
كل الناس في الغالب يتفلسفون -بيد أنهم ليسوا فلاسفة بالمعنى الاصطلاحي - ولكن بدرجات متفاوتة, وإن كان البعض منا لا يريد أن يسلم بأنه يتفلسف, وعدم تسليمه, هو في حقيقة الأمر نوع من التفلسف يؤكد الفلسفة بدلاً من أن يحسر من دائرتها بنفيها لأنه لا ينطلق في إنكاره للفلسفة من فراغ وإنما هو يحاول بناء وجهة نظر مضادة يتفانى في سبيل منطقتها، وهذا يعني في النهاية أنه يتفلسف ولكن وعيه بهذا التفلسف في أدنى ضروب الخفوت.
لقد تلبست الفلسفة منذ نعومة أظفارها بمسالك منهجية موغلة في اجتراح مناوءة إملاءات الشرط المنهجي بما حوته من أسس مفاهيمية متناهية الشطط كثيراً ما سقطت جراءها في مناكفة القواطع العقلية فضلاً عن مصادمة الحقائق النصية والتناقضات الذهنية والوقوع في فخ الدور القبلي المرفوض عقلاً بخلاف الدور المعي الاقتراني, ونفرت منها كانعكاس طبيعي لذلك الذهنية المنضبطة بمستلزمات المقتضى الديني وجفلت من التعاطي معها وتخلقت إثر ذلك نظرة ارتيابية من قبل العقل الجمعي لهاويات من يتوسل القانون الفلسفي في منظور الوعي العام محل شبهة وموضع شك الشأن الذي ولد ضروباً من حالات السوفيافوبيا أورثت عقابيل كأداء حالت دون شعبنة الفلسفة, وصعدت من درجة الممانعة الشعبية لأدبياتها وبالتالي حجّمت من تمظهرات التفلسف. وقد كان المنحى المسلكي الذي وقع في فخه الكثير من الفلاسفة الإسلاميين كما نرى عند ابن سينا أنهم أقحموا العقل في الإلهيات دون التوافر على الحساسية الكافية للالتزام ببديهات الوحي فشطحوا في اشتغالاتهم وصادموا يقينيات عقدية، وقد كان من المتاح لهم أن يضيفوا للوعي البشري إضافات بيستمولوجية لو جرى تفلسفهم ضمن الأطر العامة للمبادئ الفطرية الكبرى، ومع أنهم اشتغلوا على ذلك برهة ما إلا أنهم لم يكونوا مزاولين له باستمرار. إن العقل بحاجة ملحة إلى الفلسفة بحسبها تحرر المرء من قوالب المفاهيم الوهمية ومن سيطرة الأحكام القبلية وتجنبه السقوط في مزلق الوثوقية وتقيه الارتكاس في أسر الدوغمائية الجزمية. العقل الفلسفي بطبيعته عقل إشكالي يرفض الركون إلى الأجوبة السهلة, ويتمنع على الأجوبة المصمتة، ويتأبى على الوصاية المعرفية، بل يخضع المعطيات الفكرية للنقد العميق ويجعلها موضع تساؤل. التفلسف حالة من الاستنفار العقلي والذهنية الثائرة والوعي المتمرد الذي يتجاوز الاعتبارات الظرفية إلى رحابة المسائل الكلية بادئاً خط سيره بالأوبة إلى الذات بغية تحطيم رؤيوياتها الوهمية والإطاحة بالمواضعات المتكئة على مجرد التقليد وهتك الأستار المسدلة التي تمثل عائقاً بستيمولوجيا في بلوغ الحقيقة. العقل بحاجة إلى الفلسفة كرؤى وتصورات ذهنية تأملية عن العالم والوجود والأشياء والظواهر المتعينة, وكحراك ذهني استطلاعي يستوجب نشاطاً ذهنياً عالياً ومواقف تساؤلية تنبعث من الدهشة الفلسفية وتقود إلى صياغة حزم من الأسئلة التي تنقل الفرد من التجربة العفوية للحياة إلى التفكير التأملي النائي الأغوار. الفلسفة تفرض ذاتها بحسبها خبرة بخطوات التفكير العلمي والحوار البناء والجدل مع ظواهر الوجود, وبحسبها وعي عميق للوجوه المتباينة للظاهرة الواحدة. الفلسفة بطبيعتها نسقية ومفهوم النسق يفيد النظام والتأليف، فهي ليست فكراً مرتجلاً ولا شذرات من الآراء, ثم, وثمت, وإنما هي تفكير منظم وبنية من الأفكار ومنظومة من النظريات، فقد يتعاطى الفيلسوف مع موضوعات متنوعة كالانطولوجيا المتمعنة في طبيعة الوجود وحقيقته, أو الابيستيمولوجيا الباحثة في نظرية المعرفة أو الاكسيولوجيا المتواصلة مع ماهية القيم وحقيقة دلالاتها، لكن هذا لا يقف حائلاً دون اتسام فلسفته بالنظام والتدرج والاحتكام إلى صرامة منطقية. وهي أيضاً عقلانية، إنها فكر عقلاني ناء عن الارتجال ورياضة ذهنية بالغة البعد المتعي؛ لا تتكئ على المناحي الوجدانية لأنها مناح لا عقلية لا تنتمي إلى الفلسفة فبينهما ما بعد المشرقين. إنها تتميز بالاشتغال النقدي الناهض على يد الشك القبلي بمنحاه المنهجي, لا بطابعه المطلق المفتقر لشرط وجاهته بحكم طبيعة وظيفته ذات المنحى التقويضي. الفلسفة باعتبارها ذات طابع إشكالي قائمة على السؤال الفلسفي المنبثق عن الدهشة، إنها دهشة أمام القضايا الاعتيادية ذات الحضور البدهي وأمطارها بوابل من الأسئلة. الدهشة كانفعال ذهني ساحر هي التي تمهد للسؤال الفلسفي وهي بطبيعتها دهشة من أمور ذات طابع كلي؛ السؤال الفلسفي بحسبه فاعلية ذهنية مشرعة يتناسل على نحو توالدي إبان مقاربة المعطيات مقاربة عقلية ومعاينتها من زوايا متنوعة تجلي مناطق إشكالها. الشمولية أحد أبرز ملامح الفلسفة فهي تهتم بالقضايا الأكثر عمومية وتتصف بالتناول الكلي للموضوعات بيد أنه يفترض أن لا يعزب عن متناول الوعي أن الفلسفة في أحايين كثيرة باتت بوابة رحبة تسربت منها انحرافات الفكر في كافة العصور، حيث إن الفلاسفة عمدوا إلى ألهنة العقل ومثلنة معطياته ولم يجعلوا منه أحد المرجعيات المعرفية التي يصدر عنها السلوك الفلسفي؛ ولذات أهواء بفعل تحكيمهم للعقل لا في الفيزيقا فحسب بل في الميتافيزيقا حيث باتت المتعاليات أحد مشغولاتهم، فنعتوا الذات العلية بأنها علة فاعلة مستلزمة لمعلولها، وكان من إفرازات مسلمات قانون العلية القول بقدم العالم حيث لا يتصورون وجود الواجب من دون وجودات ممكنة معلولة منفصلة عنه! العالم بزعمهم معلول للخالق مساوق له - غير متأخر عنه بالزمان - مساوقة المعلول للعلة مع عجزهم عن تأكيد أزليته وعدم قدرتهم على نفي حدوثه. واحتجوا بضروب العلل المتمثلة في الفاعلية والغائية والمادية والصورية. الموت في تصورهم ليس صفة وجودية بل عدم صرف، ولذا نفوا المعاد الجسماني لصالح البعث الروحاني وقالوا نتيجة للانكفاء اتكاء على التوجه العقلي بوجود الكليات في الخارج المتمثلة في الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام مع أنه يتعذر وجودها كأعيان في الشهادة، أو قالوا بالوجود المطلق كمعنى كلي عقلي محض مع أنه ذا دلالة شمولية لا تختص بموجود دون موجود، فمزجوا بين الوجود المطلق الكلي الذهني وبين الماهية وملامح التشخيص الخارجي! أيضاً باينوا مقتضى المعقولات فنفوا النقيضين وقالوا بنفي النفي والإثبات بحجة أن التقابل هنا - لعدم قابلية المحل! - من قبيل الملَكة والعدم. الصفة الثبوتية جعلوها عين الموصوف، ولا يخفى أن قود ذلك - إذا جرى طرده - يجعل الوجود الواحد بالنوع واحداً بالعين, بل وثمة من صرح بالاتحاد العيني المادي الذاتي المناقض للاتحاد النوعي الحكمي، واعتقدوا أن عين وجود الحق هو عين وجود الخلق, فالحق المنزه هو عين الخلق المشبه فما ثم سوى, وليس ثمة غير, إذ هو عين وجود كل موجود!!. هذه الشريحة من الفلاسفة -طبعاً إذا أطلقت كلمة فلاسفة فليس المراد بها الفلاسفة الدهريون ولا الدوريون وإنما الإلهيون المشاؤون أتباع أرسطو طاليس - وصفوا الواجب بالإضافات والتي تعقلها مرهون بتعقل مقابلها كما القبلية والبعدية, وجعلوا وجوده زائداً على عين ماهيته في الخارج, طبعاً وصف (الوجود) في منظورهم ليس من قبيل المشترك المعنوي بل من قبيل الاشتراك اللفظي!. فراراً من شبهة الافتقار والتركيب الممتنع نزهو االخالق -بزعمهم- من الأغراض والأعراض والأبعاض وحلول الحوادث، ونفوا الصفات تحت ذريعة أن قَوْد إثباتها يوجب الكثرة الآيلة إلى تعدد القدماء, وإبان ذلك النفي تنكبوا قياس الأولى وتوسلوا قياس التمثيل الأصولي الذي ينتقل فيه الذهن من حكم معين يتمثل في الأصل على حكم معين آخر هو الفرع لاشتراك الاثنين في معنى واحد، وذلك الحكم يلزم ذلك المشترك الكلي، وهو لازم اللازم، وأيضاً قياس الشمول المنطقي ذلك القياس الاقتراني الذي يجري الانتقال فيه من المعنى الجزئي إلى المعنى الكلي المتناول له ولسواه والحكم عليه بما يلزم المشترك الكلي بأن ينتقل من ذلك الكلي اللازم إلى الملزوم الأول وهو المعين. أيضاً اعتقدوا بامتناع حوادث لا أول لها وقالوا بنظرية الجوهر الفرد المستعصي على الانقسام, وبنظرية التسلسل في المخلوقات في الماضي, واقترفوا جريرة الزعم بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد هو العقل الأول! أما النبوة فيرون أنها كسبية من خلال القوة الحدسية وقوة التخيل وقوة نفسانية يتصرف بها في هيولى العالم. هذا المنهج الذي تشكلت ملامحه على أولوية إقصاء الوحي قرر أن الله لا يخلق من اللاشيء شيئاً، وعلى ضوء ذلك اشتغلوا على برهنة أن المعدوم شيء ثابت في العدم, أما الملائكة فقد تم نعتهم بأنهم ماهيات مجردة عن المادة وليست أحياء ناطقة تقوم بذاتها بقدر ما هي أشباح وقوالب نورانية. تلك الفلسفة السفسطائية بمحاورها الثلاثية العندية, والعنادية, واللاأدرية التي تشك وتشك في شكها! أنكرت - لعدم العلم لا للعلم بالعدم! - وجود عالم الجن على نحو منفصل في الحس, أما الوحي في وعيها فهو فيض عقلي يفيض من العقل الفعال، يقصدون جبريل عليه السلام فهو العقل العاشر في سلسلة العقول التي سلسلوها!. إن هذا الضرب من الفلسفة ذات النزعة الماورائية يجب إسقاطها من عليائها ونقض العبودية الفكرية لها وتعريتها - بفعل تشويهها للفلسفة - من كل ما رافقها من سفسطات ممجوجة. إن إشكالية العلاقة بين الفلسفة والدين ليست جديدة، فمنذ أن وجدت الفلسفة والتفلسف أخذت تلك الإشكالية سبيلها إلى التجلي، ولعل جذور الإشكالية تكمن في عدم اقتناع العقل المتفلسف بالأحكام الإلهية تجاه الكثير من القضايا الميتافيزيقية، في حين تتخذ تلك العلاقة منحى مغايراً بالنسبة للعقل المؤمن الذي يطرح تساؤلاته ويبدي اندهاشاته تجاه بعض الأحكام التي يكتنفها الغموض بآلية تحترم الكينونة العقلية فلا تدلف بها في سياقات لا تملك محدات التأهيل لها. إن التفلسف الفعلي هو ذلك المنبعث في قراءته المتواصلة لنص الوجود وفقاً لإملاءات الخصوصية المنهجية ويدور في إطار الوحي فلا يخوض في القضايا المتعالية على سلطان المشاهدة بوصف هذه الآلية هي التي تربك الذهنية وتصرف الطاقة العقلية عن سياقها المأمون. إنه لا يسوغ للفرد إخضاع البديهيات العقدية للتساؤل بدعوى البحث عن اليقين وكذلك المعرفة المتولدة لديه من الخبر الصادق وحياً في دائرة الغيب والشهادة، بل يتحتم الإذعان المطلق والانقياد الطوعي. إن التفلسف الحقيقي هو ذلك المرتكز على الشمولية والعمق التفسيري والتعليل وملامسة البواعث القصوى والمبادئ الأوَل, إنه ذلك الذي يبحث عن النواميس والسنن الناظمة لهذا الكون, ويربط بين العلل ومعلولاتها، فهو ينمي ما هو إنساني في الإنسان بشكل ينسجم والحقائق الماورائية الجزئية والكلية بحسبها حقائق يقينية, إذ ثمة تحفظ يبديه الوحي أمام مقاربتها, بل ويندد بذلك العقل الذي لا سقف يحده، فهو يندفع بلا حسبان ويطرح أسئلة ذات لون غيبي تتعالى على الإدراك البشري. الدين قنن أنظمة ووضع سياجاً تؤطر مسافات العقل وتحجم من انطلاقته وارتياده حقولاً لم يرشح لارتيادها. نعم العقل الفلسفي القادح لزناد فكره لا يملك تجاهل دهشته ومناهضة حب الفضول المغري باقتحام المجاهيل ومقاومة التوق الجبلي نحو سبر أغوار الأشياء وصولاً إلى قانونها العام، لكن هذا إذا لم يجر تقنين مسيرته، فمصيره إلى التيه في دياجير حالكة, والتخبط بعيداً نحو المزيد من الإرهاق الوجودي. إن مقتضيات اللحظة المعرفية تقرر محورية وضع مقررات مدرسية تحفل بهذا العلم لترشيد طرائق التفكير لدى النشء, الظرفية الآنية تحدو إلى وضع لبنات لفلسفة موضوعية وإقامة قواعد منهجية لها والتأسيس لفلسفة مغايرة غير مستقاة من فضاء فلسفي مباين غاية المباينة للإطار المرجعي المعتمد. لابد في إطار التدشين لفلسفة تسهم في إغناء التجربة الإنسانية من فتح عهد جديد في سلوك التفلسف يتخلق على ضوء الاعتبارات المعتبرة في عمق ثقافتنا ليكون لها حضور استقلالي وتضاهي بل وتبز في بنائها المعرفي وبنيتها المنهجية الفلسفة الغربية الحديثة. لابد من الانطلاق في عملية الإبداع الفلسفي من ثوابت الذات والخطوط العميقة في مرجعيتها, والدكتور (طه عبدالرحمن) كطاقة فكرية خلاقة له جهود تكثر وبوفرة ملحوظة في هذا الميدان, هذا الفيلسوف المعاصر يبذل جهوداً مضنية في سبيل التأسيس لمرحلة حديثة من تاريخ الفكر الإنساني وله مشروع يتغيا منه أن يؤوب الإسلام كما كان (قوياً في حضوره ومبدعاً في عطائه)، انظر (سؤال الأخلاق) ص171
(طه عبدالرحمن)، كان يشتغل على التفلسف بآلية ميزته عن مجايليه، وقد أبدى مهارة فائقة في تصنيع المفاهيم واستنبات المصطلحات في هذا المشروع الذي يتوخى نزع الهالة عن الفلسفة الغربية ووضع اتساقها وابنيتها المعرفية على مشرحة النقد الفلسفي وتفكيك بنائها النظري. طبعاً هذا المشروع لا يخلو من وجود بعض الملاحظات - وهو بطبيعة الحال جدير بالمقاربة وسأتطرق له في مقالات مستقلة في مطبوعات أخرى متخصصة - ولكنه على نحو عام مقبول في سياقه وخصوصاً في ظل واقع يكتظ بالفلاسفة العرب الذين التُهمت كينوناتهم في لحظات التكوين فنسجوا على منوال نموذج الآخر بفعل الجهل بالبواعث الفاعلة في محتوياته وسياقاته التاريخية وباتوا مأسورين لمناهج الآخر يستلهمونها وليس بمكنتهم إبداع ما يضارعها. ولوغهم في التبعية آل إلى فشلهم في ممارسة التفلسف وفقاً لمقتضيات الجبلّة الإسلامية، وهذا ما يؤكده (طه عبدالرحمن) حيث يؤكد قزامة المتفلسف العربي وأنه (لا يجرؤ لحد الآن أن يضيف إلى المفاهيم الفلسفية التي يصنعها غيره مفاهيم يصنعها من عنده)، انظر (الحق العربي في الاختلاف الفلسفي) ص77.
Abdalla_2015@hotmail.com