الكتابة عن الأشخاص مثل التحدث أمامهم أو في مواجهتهم، تتطلب من الكاتب أن يتخيل الطرف الآخر، أو توجيه الحديث إليه وكأنه أمامه.
عندما تتحدث عن الدكتور الخويطر، فأنت أولاً تقف أمام رجل لماح سريع البديهة بالغ الفطنة والانتباه، كما تقف في مواجهة إنسان واقعي عملي، لا تعرف المبالغة والتكلف والمزايدة إليه طريقاً، وأنت، بعد هذا وذاك، تقف في مقابل شخصية متعددة المواهب والاهتمامات، تحمل فلسفة إدارية خاصة في الإدارة وكل ما يتصل بها.
عرفته لأول مرة عام 1383هـ 1963م عندما كان وكيلاً لجامعة الملك سعود، تلميذاً له في مادة التاريخ، وكاد حرصه على تطبيق قاعدة نظامية يفوت عليّ فرصة التسجيل في ذلك العام الجامعي، لولا عطف د. عزت النص رحمه الله، وقد شاء الله أن أجتاز تلك المادة بتفوق، لعل مرده تحري مدرسته في تعليم فلسفة التاريخ.
ثم مرت بنا الأعوام، أدين له بالأستاذية في كل مراحلها، في صلة لم تنقطع، أتعلم من أسلوبه وأفكاره، ثم أراد الله أن يخلف الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ في وزارة التعليم العالي، إثر وفاته المفاجئة رحمه الله، وكنت إذ ذاك وكيلاً للوزارة، فجرت بنا سفينة الأعوام الأربعة التي قضيتها في صحبته في رخاء ويسر، نفعتني في ذلك معرفتي السابقة والمستمرة بنهجه وأسلوبه.
كثير من الإداريين، ولا أقول القليل منهم، يتصورون الدكتور الخويطر وينعتون إدارته بصفات قد تصل إلى التعقيد والشدة والإمساك المالي، والحق يقال، وللإنصاف، فإن من يعرف أسلوبه عن قرب يجد أنه صاحب مدرسة ثابتة لا تتغير، له قناعات راسخة لا تتقلب أو تتلون، وبالتالي فهو يريح من يتعامل معه، وقد لا يلبث منتقدو سياسته أنفسهم من العدول عن رأيهم والانضمام إلى مدرسته، بعد الاقتناع بسلامة رأيه، ومن ثم تقليده في كثير من الأمور.
فالرجل له فلسفة مالية محورها ترشيد الإنفاق، وعدم القناعة بأوجه الصرف المبالغ فيها، وهو لا يعتد بمظاهر الإسراف في المكاتب والتجهيزات، ولا يميل إلى ضم قطاعات أو نشاط لا يدخل في صميم اختصاص وزارته، وله رأي سلبي في كثرة تشكيل اللجان، لكنه ما إن يقتنع بأمر، فإنه لا يعطله، بل يبحث عن أسهل طريق لتمريره.
أذكر في هذا السياق مواقف عديدة، مستشهداً بثلاثة منها تغير من الصورة السلبية النمطية التي يتصورها البعض عنه، وتؤكد موضوعيته واعتدال موازينه:
الموقف الأول: كانت الوظيفة التي شغلتها في وزارة التعليم العالي تمثل همزة وصل بين الوزارة والجامعات، وقد أبديت له في أحد الأيام تصوراً لترشيد الأقسام العلمية المتكررة في المدينة الواحدة، أو الفروع المزدوجة في المنطقة الواحدة، فطلب مني أن أكتب عرضاً رفعه إلى الجهات العليا، دون أن يعرضه على مجالس تنسيقية كما كان متوقعاً منه، ويمكن الجزم بأن تلك الرؤى التي تضمنها ذلك العرض آنذاك، لا تقل عما يتم إقراره بين حين وآخر من المجالس التنظيمية والإشرافية.
الموقف الثاني: إنه عندما كلف وزيراً للتعليم العالي بالنيابة، وجد أن أحد الأنظمة المهمة، قد قُتل بحثاً في اللجان، وتعطل فترة طويلة ينتقل من لجنة إلى أخرى، كلما عرض على لجنة قلبته رأساً على عقب، وشكلته وفق منظور المؤثر من أعضائها، وكان من المتوقع أن تشكل له لجنة أخيرة لوضعه في شكله النهائي.
قال لي على طريقتك أريدك أن تمر علي بعد صلاة العشاء في المنزل لاستعراض وجهات النظر التي أبديت حيال كل مادة وتداولها، ولم تمض ليال ثلاث إلا وقد كان النظام جاهزاً للرفع إلى مجلس الوزراء.
الموقف الثالث: كانت لدى وزارة التعليم العالي لائحة تنظيمية مهمة، طورها المختصون في الجامعات لتنظيم بعض النشاط العلمي والمهني، وعندما اطلع عليها بصيغتها النهائية، ووجدت ارتياحاً في خاطره، وكان على الوزارة وفق المعتاد أن ترفعها إلى مجلس الوزراء، أو أن تنتظر انعقاد المجلس الأعلى للجامعات لإقرارها، فإذا به يفاجئ كاتب هذه السطور باعتمادها، وتبليغ الجامعات للعمل بها.
فهذه الأمثلة تؤكد حقيقة أن الدكتور الخويطر على خلاف الانطباعات التي تشاع عنه، وأنه على جانب كبير من الموضوعية والإقساط، فهو مستمع جيد، مع بساطة لا حدود لها، وحجة مقنعة، وبينة قوية، وهدوء في الطرح والمداولات.
لقد استفاد الدكتور الخويطر من انتقاله من مسقط رأسه عنيزة إلى مكة المكرمة، وعمره لما يتجاوز الرابعة عشرة بعد، ليلتحق بوالده الذي كان يعمل في مالية الحجاز، فجمع بين ثقافتي الحجاز ونجد، فتجده يتذكر جذوره في مدينته، أسواقها، مزارعها، كتاتيبها، بيوتها، لهجتها وتراثها الشعبي، مساجدها، وتركيبتها الأسرية والاجتماعية، وكانت مجتمعة أحد مصادر إلهاماته وإبداعاته في الكتابة عن التراث، أما عندما يتحدث عن مجتمع مكة المكرمة، وقد انتقل إليها سنة 1357هـ 1938م، فإنه يغرف من انطباعات عميقة حفرت في ذاكرته الصغيرة، فهو يتذكر مدرسته ومعلميه وحلقات الحرم الشريف، وحارات مكة المكرمة وعاداتها ومأكولاتها، وربما تحدث بمفردات مكية لا يتقنها إلا من عاش صغره هناك، والأمر نفسه ينطبق على إقامته اللاحقة في مصر وبريطانيا، حتى ليخيل إلى سامعه أنه أمضى كل طفولته في كل واحدة منهما.
والدكتور الخويطر، من الأوفياء لكل من وما له حق عليه، وفي المقدمة وطنه وأساتذته وكل من أسدى إليه معروفاً، فهو ما زال يتحف القارئ بين حين وآخر بذكر من طوقوه بالإحسان في دراسته أو بعثته، ويشارك في تكريمهم.
والدكتور الخويطر، وهذا بيت القصيد في عنوان المقال، ناثر مبدع، وناقد متذوق، وراوٍ دقيق، ومحقق بارع، تدلل قائمة المطبوعات التي أصدرها على مهارة فائقة في صياغة الفكرة، وتدوين المعلومة، وتدفق الكلمة، واختيار العبارة.
كتب في التاريخ، وهو تخصصه الأساس، وأفاض في مجال التراث والأدب والسياسة والسيرة والتربية، في سلسلة من الإصدارات المعروفة التي كان آخرها كتابه عن لمحات من تاريخ التعليم في هذه البلاد.
لقد كتبت مرة في هذه الصحيفة العدد 9158 عام 1418هـ 1997م أن أسلوبه في النقد والتحقيق وإبداعاته النثرية الثرية، تذكر القارئ بجيل الكتاب والباحثين التراثيين الأوائل والمعاصرين كالرافعي والمنفلوطي والزيات ونحوهم.
مما يحمد للدكتور الخويطر أنه على الرغم من تعدد مسؤولياته، ومن كثرة أعبائه السياسية والإدارية، ظل وفياً لتكوينه الأصلي الأكاديمي فخصص للتأليف والكتابة والبحث العلمي نصيباً من وقته، لقد تخرج من بريطانيا عام 1380هـ 1960م بعد نيله الدكتوراه، وكانت أعماله التعليمية الأولى في جامعة الملك سعود تشبع حاجته في البقاء قريباً من الكتاب، لكنه ما ان بدأ عمله اللاحق في ديوان المراقبة العامة أو وزارة الصحة وكاد يشغله عن عشقه الأول، حتى سارع إلى تكريس فراغه لأغراض الكتابة والنشر، بحيث تلاحقت كتبه منذ أواسط التسعينيات الهجرية (السبعينيات الميلادية) إلى اليوم.
ثم إن للدكتور الخويطر ديوانيته المستمرة، التي تعمر مساء الخميس والجمعة بالحديث الفكري المفيد، وتبادل المعلومة الجديدة والقديمة في العلوم شتى.
وهو صاحب مدرسة فريدة في تحرير المقالات والكلمات، يعطي عملاً متكاملاً، وله أسلوبه المتميز في إعداد المذكرات الإدارية، يحرص فيه على احترام اللغة العربية، وعلى اختيار العبارات المباشرة المؤدية للغرض، أما مؤلفاته فإنها أنموذج في مراعاة علامات الترقيم والالتزام بقواعد التحرير، كالهوامش والفهارس، المكملة للشروط العلمية للنشر، علماً بأن له كتاباً عن طرق البحث، صدر في عام 1395هـ (1975م).
والدكتور الخويطر، لا يبخل بوقته وفكره ومعلوماته على الباحثين، في مراجعة مؤلفاتهم، والمشاركة في حلقات النقاش والندوات، ويضع كل إمكاناته في خدمة الدارسين وطلاب العلم والمؤلفين. فهل يا ترى بيننا اليوم من بلغ مرتبته في أداء حق التعلم والكتاب، ولم ينل تكريماً يليق بمكانته.
د. عبدالرحمن الشبيلي