Al Jazirah NewsPaper Thursday  05/03/2009 G Issue 13307
الخميس 08 ربيع الأول 1430   العدد  13307
واصلت بعدك الرسالة وحملت بعدك الأمانة
محمد بن أحمد الرشيد

 

كنت وأنا صغير أحلم بأن أراه.. فإذا بي أجلس على كرسيه، وأحمل الرسالة بعده، وأؤدي حق الأمانة في موقع شغله هو وزيراً للمعارف.

كنا نسمع أن هناك درجة علمية تسمى الدكتوراه.. ونظم أنها ذات علاقة بالطب، وأن الحصول عليها من باب المستحيلات، وللتدليل على ذلك، فإني لا أنسى موقفاً شهدته في مكتب وكيل وزارة المعارف السابق الأستاذ إبراهيم الحجي؛ إذ كان عنده أحد الإخوة الذين حصلوا على شهادة الدكتوراه مؤخراً، فدخل عليهم رجل متوسط العمر، معروف لديهم بمكانته الاجتماعية، فحينما عرّفه الأستاذ الحجي بالأخ الحاصل على الدكتوراه لم يلبث هذا الرجل أن طلب منه الكشف الطبي على شيء في جسمه، وشمر ثيابه أمامه ليطلعه على مكان الألم المصاب، وحاول الأستاذ إبراهيم عبثاً أن يشرح له مفهوم الدكتوراه - ولكنه أصر على أنه يعرف أن الدكتور هو الطبيب وأنكم لا تريدون علاجي.

***

وقد حدث مثل هذا الموقف في عام 1393هـ حين عدت بدرجة الدكتوراه من أمريكا، وكنت بين الحاضرين في منزل عمي، وناداني أحد الإخوان بلقب الدكتور، مع عدم استعمالي له، وتفضيلي لأن أنادى بكنيتي (أبو أحمد)، فإذا برجل بين الحضور يدنو مني ويقول لي (بالنَّص) يا دكتور محمد: لماذا لا تأتي في بلدتنا (الخرمة) وتفتح عيادة؟ واللهِ إنك سوف تكسب كثيراً.. هل تصدق أني أخذت ابنتي إلى رجل (ليضربها بالإبرة) فأخذ مني عشرة ريالات مع أنه لم يستغرق دقيقة في ذلك.

فشكرته على طيب نيته.. وضحكنا.

كل هذا الذي ذكرته يوحي بأننا حديثو عهد بهذه الدرجة العلمية التي كان من بيننا الدكتور عبدالعزيز الخويطر -حفظه الله- هو أول سعودي حصل على هذه الدرجة العلمية من بلاد أجنبية.

كم كنت منبهراً بهذه الدرجة العلمية التي لا يحصل عليها إلا رجل نابغ غير عادي.

***

ولم أشعر يوماً أني سأتمكن من لقاء هذا الجهبذ، الذي حقق ما لم يحققه أحد في وطننا قبله، ويتسنم الدكتور الخويطر مركز القيادة في جامعة الملك سعود، ويذيع صيته، وتعم شهرته، ويتحدث لنا من نعرفهم من طلاب قسم التاريخ في كلية الآداب عما يتميز به من روح علمية ناضجة، وقدرة على إيصال المعرفة في ميدان تخصصه لطلابه.. بل إن الكثير يتباهى بأنه أحد طلاب الدكتور الخويطر، ويترقى الدكتور الخويطر في مناصبه، وترقى معه سمعته العطرة، ويعرف عنه تحفظه، ودقة مراقبته وملاحظته، إلى جانب عنايته باللغة العربية التي يشكر بحق عليها، إذ كان لا يوقع على أية رسالة أو معاملة ترد في ثناياها أخطاء إملائية أو لغوية.

***

وحين شرفت به وزارة المعارف، كنت قد عدت للتو من الولايات المتحدة الأمريكية، وحين أصبحت عميداً لكلية التربية حظيت بمعرفته، والالتقاء معه، ولا أنسى ذلك اليوم الذي هاتفني فيه وطلب إلي أن أحضر إلى مكتبه، قائلاً لي: إن مؤتمراً يعقد في لندن عن (البكالوريا الدولية) ومع أني مدعو لحضور هذا المؤتمر إلا أني اخترتك لتكون أنت الحاضر مكاني، ثقة فيك، ومعرفة بك.

وكان هذا أول مؤتمر عالمي أشارك فيه باسم بلادي.

***

ولقد أتاح لي هذا المؤتمر أن أتعرف على هذا النوع من المناهج الدراسية فهي موجهة لطلاب يتنقلون مع ذويهم من وطن لآخر بحكم ظروف عملهم قد تكون دبلوماسية، أو علمية، أو تجارية، ولهذا لم أستسغ على الإطلاق هذا النوع من المناهج الذي بدأت تطبقه بعض المدارس الأهلية عندنا.

كما لا أنسى مشاركة الدكتور الخويطر في المؤتمر الذي أقامته جامعتنا المسماة في ذلك الوقت -جامعة الرياض- بعنوان (رسالة الجامعة) وكان لما قدمه من رؤى أثر كبير في ترسيخ المفاهيم الجامعية على الوجه السليم.

***

وتمر الأيام والعلاقة به تزداد توثقاً.. حتى كان أن بادر بترشيحي مديراً عاماً لمكتب التربية العربي لدول الخليج في زمن أسند إلى ذلك المكتب ضمن مهامه الكثيرة إنشاء جامعة الخليج العربي في البحرين، وهذا الأمر أوجب على مدير عام المكتب إجراء اتصالات على أعلى المستويات لكل الدول الأعضاء.

***

ويأتي الدكتور الخويطر مسانداً لكل جهد بذلته في هذا الأمر، ومن ذلك حين حظيت برفقته إلى التشرف بلقاء جلالة الملك خالد بن عبدالعزيز -رحمه الله- إذ سأل الملك الدكتور الخويطر عن هذا الخطاب الذي قدمته لجلالته آنذاك، وفيه أن هذه الجامعة المراد إنشاؤها ستكون أبرز دليل على ما بين الدول الأعضاء من تكاتف وتكامل، وبإنشائها نسبق دول الوحدة الأوروبية، إذ التفت جلالته - يرحمه الله- قائلاً: (يا عبدالعزيز: ما دمنا نسبق بهذا العمل المشترك دول أوروبا فنحن معه ونباركه).

***

أمضيت تسع سنوات مديراً عاماً لمكتب التربية العربي لدول الخليج مما جعل اتصالي به وثيقاً وسافرت كثيراً برفقته إلى مؤتمرات عربية استفدت الكثير من خبراته، وحنكته، وثقافته، وأيضاً في بساطته وتواضعه، بل إني لا أذيع سراً أن قلت إن أكثر الطرف طرافة ومتعة هي تلك التي يسعدنا بها معاليه - حفظه الله- وحين تشرفت باختياري وزيراً للمعارف بعده وجدت منه ثروة هائلة من العطاء والخبرة، والجدية في تناول الأمور.

ولقد قدم لي نصائح عظيمة الأثر في أول أيام عملي بالوزارة أخذت بالكثير منها وكانت حقاً مجدية، ومفيدة.

تجمعني بالدكتور الخويطر أشياء كثيرة، يأتي في مقدمتها عشقنا للغة العربية، وحميتنا في الحفاظ عليها، والحرص على تميزها.

وفي كثير من اجتماعات اللجنة العامة لمجلس الوزراء كنت أحرص مثل حرصه على اختيار أدق الكلمات للتعبير عما نريد.

قال لي مرة: يا أبا أحمد.. ألا ترى معي أن هناك كلمات يستعملها الكثير مع عدم مناسبتها.. قلت مثل ماذا يا أبا محمد؟

قال: إفرازات، زخم، نشاطات، وغير ذلك، مما جعلني أتحرى الدقة في كل كلمة أكتبها حتى اليوم.

أغبطه على ذاكرته اللمّاحة الحافظة، والتي تعبر عنها سلسلة كتبه التي سجل فيها ذكريات حياته بدءاً من نشأته، والتي لا تزال تتواصل تباعاً، أطال الله عمره..

***

عجيب أمر هذا الرجل.. يذكر لك الحدث مهما كان صغره، أو قدم حدوثه، وكأنه مصوّر الآن أمامك بكل دقائقه، وقد ساعدته على ذلك تلك العادة الحميدة المتمثلة في تسجيله يومياً - وباستمرار- الوقت كل ملاحظاته وأحداث يومه يكتبها، فجاءت في هذه السجلات التي قدمها لنا نماذج لحياة رجل سمقت مكانته وعلا شأنه.. بل إنه أراني يوماً آلة صغيرة يحملها ويقول: أسجل بالصوت فيها ما أستعجل تسجيله خشية نسيان كتابته.

ألا يستحق مثل هذا الرجل بكل هذه المعايير الإنسانية، والعلمية، والعملية أن يكون الشخصية الثقافية التي يحتفي بها الوطن هذا العام.. في واحدة من أكبر مواسمنا الثقافية.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد