حتى أشد الواقعيين قسوةً لا بد أن يتفقوا معنا على أن فشل الرقابة الشيوعية لعب دوراً مهماً في انهيار الستار الحديدي؛ حيث ساعدت إذاعة صوت أمريكا، وآلات الفاكس، وموسيقى الروك آند رول، وإغراءات الرأسمالية الغربية في استمالة شعوب الكتلة السوفييتية.
واليوم كثيراً ما تُعَلق آمال مشابهة على شبكة الإنترنت؛ حيث تنشأ التوقعات الكبرى بأن تؤدي ثورة المعلومات على شبكة الإنترنت في الدول الاستبدادية المعاصرة إلى نفس النوع من فشل الرقابة الذي شهدناه في أوروبا الشرقية، وبالنتائج ذاتها.
والحقيقة أن هذه التوقعات ليست بلا أساس من الصحة تماماً؛ ذلك لأن أغلب أنظمة الرقابة على الإنترنت ليست مثالية، ولكن على الرغم من أن أي شخص يتمتع ولو بقدر ضئيل من المعرفة قادر على التوصل إلى الطريقة التي يستطيع بها أن يتحايل على (جدار الصين الناري العظيم)، على سبيل المثال، فإن غربلة المعلومات على شبكة الإنترنت لا تشكل سوى مستوى واحد من الرقابة التي تفرضها الصين على الشبكة؛ إذ يكملها نظام متطور من التلاعب والتلفيق.
وعلى الرغم من تخفيف أنشطة حجب المواقع الأجنبية أثناء دورة الألعاب الأولمبية إلا أن حذف المحتوى الذي يتسم بأي شكل من أشكال الحساسية السياسية من المدونات وغرف الدردشة الصينية استمر بلا انقطاع طيلة عام 2008 والآن تستغل الحكومة الصينية حملتها الجديدة ضد المحتوى (المبتذل) على شبكة الإنترنت لتطهير الكتابات الحساسة سياسياً، بما في ذلك المناقشات التي تدور حول (ميثاق 08)، وهو عبارة عن رسالة مؤيدة للديمقراطية وقع عليها الآلاف من الصينيين الذين اكتشفوها على الشبكة.
وخلافاً للتوقعات الغربية فإن أغلب عمليات الرقابة الداخلية على شبكة الإنترنت لا تتولى تنفيذها شرطة الإنترنت الحكومية، بل تتم بواسطة شركات استضافة مواقع الإنترنت الصينية التي تتحمل المسؤولية القانونية عما ينشره مستخدموها.
الحقيقة أن شبكة الإنترنت في الصين تتطور وتتكيف على نحو يعمل على دعم شرعية النظام؛ حيث يتم توظيف مئات الآلاف من الناس كمعلقين مستقلين على الشبكة يعملون على تحويل المناقشات في غرف الدردشة والمدونات نحو اتجاه أكثر وطنيةً وتأييداً للحكومة. ويتطوع الشباب من الوطنيين الفخورين بالقوة الاقتصادية والسياسية العالمية التي اكتسبتها الصين مؤخراً بوقتهم عن طيب خاطر لاستعراض وطنيتهم على شبكة الإنترنت.
وفي الوقت نفسه تتطلع الصين إلى روسيا التي ربما ابتدعت نموذجاً جديداً بالكامل للتحكم في شبكة الإنترنت دون اللجوء إلى فرض الرقابة؛ فبعد أن نجح الكرملين في ترسيخ سيطرته الكاملة على أجهزة الإعلام التقليدية، يتحرك الآن وبالسرعة القصوى نحو العالم الافتراضي. والاستراتيجية التي تتبناها السلطات لتحقيق هذه الغاية واضحة: ترسيخ السيطرة المُحكَمة على منابر النشر الرائدة وشحنها بالدعاية والتلفيق في محاولة لصياغة وتشكيل الرأي العام على شبكة الإنترنت.
إن المصير الذي آلت إليه مدونة LiveJour
nal - وهي مدونة الرأي الأكثر تأثيراً ونفوذاً في
روسيا، والتي كثيراً ما تستخدم للتعبير عن المعارضة والاحتجاج على الحكومة - يُعَد واحداً من الأمثلة المؤسفة؛ ففي أقل من ثلاث سنوات تحول هذا المصدر الشعبي للرأي على شبكة الإنترنت من مشروع أمريكي ناشئ محترم إلى منشأة غير واضحة المعالم تتخذ من موسكو مقراً لها، ويشترك أعضاء حكومة القِلة المفضلين لدى الكرملين في ملكيتها.
والدعاية الحكومية أيضاً متوافرة هناك بغزارة؛ حيث يساهم في توليدها ملوك الإعلام الجدد مثل قسطنطين ريكوف، نائب مجلس الدوما الذي يبلغ من العمر 29 عاماً، ومؤسس نيو ميديا ستارز، وهي شركة الإنترنت المفضلة لدى الكرملين.
وكلما فشلت جهود التلاعب فإن الهجمات السيبرانية تشكل أداة قوية أخرى للتضييق على المعارضة دون استفزاز الاتهامات الشعبية بممارسة الرقابة الرسمية. وهذا على وجه التحديد ما حدث للمواطن الجورجي (المعروف باسم cyx
ymu على الشبكة) الذي تعوَّد على استخدام
مدونته على Live Journal لانتقاد الأداء الرديء للحكومتين الروسية والجورجية في التعامل مع حرب الصيف الماضي؛ ففي أعقاب انتقاداته اندلعت سلسلة من الهجمات السيبرانية التي كانت شديدة التخريب إلى الحد الذي أدى إلى انهيار الخدمة بالكامل - بما تضمه من ملايين المدونات الأخرى -؛ الأمر الذي اضطر إدارة LiveJournal إلى شطب حسابه مؤقتاً.
بينما تتعلم الأنظمة الاستبدادية المعاصرة كيف تدير وتهندس تيارات المعلومات؛ فيتعين علينا أن ندرك أن قضية الترويج لحرية التعبير وحمايتها في بلدان مثل الصين وروسيا ليست بالمسألة البسيطة التي تتلخص في (إسقاط الجدار)؛ ففي ظل الاستراتيجيات المعقدة التي تتبناها حكومات هذه البلدان في تنظيم ما يقوم به موطنوها من أنشطة على شبكة الإنترنت - والتي تتراوح بين ترسيخ السيطرة الفعالة على المنافذ الإعلامية الخاصة وشركات الاتصالات إلى السماح للناس بالتنفيس عن غضبهم ولكن دون التمادي في تجاوز الحدود، ينبغي لنا أن نكون أكثر واقعية في تقدير الحجم الحقيقي لقدرة الإنترنت على التغيير.
* ريبيكا ماكينون ويفجيني موروزوف زميلا معهد المجتمع المفتوح.
- حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2009
www.project-syndicate.org
- خاص بـ(الجزيرة)