شرفت بدعوة كريمة من قبل اللجنة المنظمة للمهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) لحضور افتتاح المهرجان في دورته الرابعة والعشرين وفعاليات النشاط الثقافي للمهرجان، وما إن وقفت وسط بهو الفندق الذي يحتضن ضيوف (الحرس الوطني) الجنادرية كل عام والتفت يميناً ثم عن يساري حتى بدأ شريط الذكريات يعيد الأحداث، أقرأ الوجوه التي تحنطت في المكان قراءة جديدة، أتذكر أين كان يجلس عبد الوهاب البياتي ومن كان يرتاد جلسته ويتحلق حوله من المثقفين والكُتّاب الكبار منهم والصغار، أتذكر ليالي البرادعي، تلك الليالي التي كان يعلو فيها صوت الشعر وصدى القصيد، أتذكر ممازحات عبد الله نور وضحكاته التي يطرب لها الكثير آنذاك، أتذكر حكايات هشام صالح وقصص الغربة والترحال، أتذكر حديث الشيوخ وكلام الأدباء، أتذكر كل هؤلاء وغيرهم كثير ممن رحلوا عن دنيا الناس، ممن فارقوا هذا العالم إلى عالم البرزخ ومن ثم الدار الآخرة، أتذكر كل هذا في لحظة عابرة، فأقول لنفسي مخاطباً إياها: خذي العبرة واتعظي، وتذكري أيتها النفس الغالية أن الموت خير واعظ، وأنه أقرب من حبل الوريد!! تعرفت في الجنادرية خلال مشوارها الطويل على المثقفين العرب على اختلاف مشاربهم وتباين أفكارهم، وصارت عندي قناعة شخصية بأنه ليس بالضرورة أن من أبدع في الكتابة ملك فن الحديث وأجاد إيصال الفكرة، تعرفت في بهو هذا الفندق على المدارس الفكرية بكل تضاريسها وتطوراتها وروادها الأموات منهم والأحياء، عرفت كم هي المساحة الواجبة التي تتركها بينك وبين الآخر المختلف حين الحوارات الفكرية والمناقشات الثقافية، تعلمت كيف يكون بناء القناعات مع وجود التحديات وجلد المخلف، الجنادرية لمن يختزل هذا الحدث أو ينظر إليه بنظرة أُحادية هي في فكرتها الأساسية منتدى حوار مفتوح وشامل، حوار بين الماضي والحاضر، حوار بين مناطق المملكة العربية السعودية، حوار بين قادة بلدنا المعطاء من جهة والمفكرين والكُتّاب من مختلف المشارب والتوجهات من جهة أخرى، حوار بين الداخل والخارج، حوار بين جيلين، حوار بين الثقافتين الشفهية والمكتوبة، احتفاء بالمثقف والمبدع والكتاب الجديد، إنها بحق فرصة ذهبية لمن لديه الرغبة في أن يعرف ويُعرف، ونافذة تاريخية سنوية لمن أراد أن يطلع على جديد الساحة الثقافية العالمية عموما والعربية خاصة والمحلية على وجه الخصوص، سوق لتبادل الإنتاج الثقافي بين المفكرين والمحبين سواء من خلال العمل المطبوع أو حتى من خلال المطارحة والنقاش لما هو ما زال في دائرة المفكر فيه، الجنادرية إثراء للبرامج الثقافية في القنوات الإعلامية والصحف المحلية، وفي وسط الذكريات وتزاحم الشخصيات يقفز إلى الذاكرة ويشخص بين عينيي أخي الحبيب، رفيق الدرب العزيز، خير صاحب وصديق (الأستاذ الفاضل إبراهيم بن سليمان العيد)، رحمه الله رحمة واسعة، تذكرت كم هي الليالي التي قضيناها معاً في هذا الفندق، تذكرت كيف كان يسوق مجلة النادي الأدبي بحائل، يقاتل في استكتاب المفكرين والشعراء والمثقفين، تذكرت مواقفه الرائعة وحديثه الشيق وابتسامته الاستثنائية وفرحته حين يحظى بمقال أو يوعد بقصيدة أو يوافق مفكر أو كاتب على زيارة المنطقة، كان بحق سفيرا ثقافيا رائعا لمنطقة حبها من شغاف قلبه فسوقها بأروع عبارة وأجزل كلام، كيف ولا وهو المثقف والأديب والمربي والحبيب، آه.. رحمك الله يا أبا رياض. عوداً على بدء، شكراً من القلب لهذه الدعوة الكريمة، والدعاء الصادق للجنة المنظمة بالتوفيق والسداد، ودمت عزيزاً يا وطني، والسلام.