بلطف اقتربت مني مضيفة الطائرة تستسمحني تغيير مقعدي لأن امرأة هناك تريد أن تكون بجوارها أخرى وليس رجلاً.. اعتذرت باللطف ذاته، وفيَّ من طبع التجاوز والاستجابة الشيء الكثير، ولو استخدمتهما لما وجدت نفسي إلا قد نهضت، حملت حقيبتي ثم رميتني فوق المقعد الذي طلبت أن أكون فوقه امرأة لا أعرفها وليس ثمة علاقة بيني وبينها, وربما تنتهي الرحلة وتذهب كلانا إلى سبيلها دون أن أسمع صوتها أو أرى عينيها، لكنني لم أفعل، فالمقعد الذي لي سبق لي اختياره عند الحجز، وفي قربه من النافذة ما يتيح لي إيداع أفكاري وتأملاتي للسحاب المتراكم تحت الطائرة، وللمدى الأبيض الواهب تراكماته للنظر، هي فرصة ساعة ونصف الساعة لأن أرافق الفضاء حوار النفس وتفاصيل المفارقات التي تعتلج فيها وتصطرع بين أخيلة المبدعين وبين تركيبة التكوين الإلهي لماهية هذا الفضاء الشاسع بأسراره ومحتوياته، بيد أن هذه السيدة تفكر في حدود ضيقة جداً لا تتعدى بعضاً من السنتمرات بينها وبين من يقتعد بجوارها ولعله أيضاً تخير مقعده، ولعله أيضاً في لحظاته يكون خارج إطار تركيبته البشرية، ربما هو الآخر مهموم بأفكاره وتأملاته وما يلتهمه من محتويات الصحف التي بين يديه، والأوراق التي يحملها تحت إبطه،... ربما هو الآن يحصد قائمة مصاريف أبنائه في المدارس أو فواتير سداد مصحات أمه أو أبيه، أو قوائم منجزات إدارته أو وظيفته، وربما وربما.... فهو منهمك بعيداً عنها، كما بدا..، ابتسمت المضيفة تقديراً للرغبة الشخصية.. وما لبثتُ أن التفت بأذنيَّ كما فعل غيري نحو صوت السيدة تحتج بقوة، كيف تجلس بجوار رجل؟.. هو صامت، وطاقم الضيافة على حيرة وربكة من أمرها، فكل واحد من الجالسين متمسك بحزام مقعده.. وحدها هي من يخرج صوتها عالياً.. لم نرها لكننا (رأينا) صوتها فرأيناها... فالأذن ترى أيضاً..