يمكن فَهْم واقع السياسة الحالية بين واشنطن وطهران من خلال معطيات دقيقة ومعلومات صحيحة، وإخضاعها لقراءة نقدية ورؤية مجردة، وإن كانت العلاقة بين الدولتين تمضي في مسارات بالغة التعقيد. إلا أن طهران تعلم جيدا أن صراعها مع واشنطن
ليس صراع وجود بل مصالح، ولذلك يقول رفسنجاني: (الولايات المتحدة هي البلد الأهم في العالم، وإيران هي البلد الأهم في المنطقة، ومن المنطقي أن يسويا مشاكلهما). فالعلاقات بين الدولتين سيئة سياسيا، ولكنها حية استراتيجيا. وهو ما يعتقده (تريت بارسي) مؤلف كتاب: (التحالف الخائن: الصفقات السرية بين إسرائيل وإيران والولايات المتحدة). إن العوامل الجيو - سياسية وليس الأيديولوجية هي التي ظلت تحكم العلاقات بين الدول الثلاث؛ ولذلك فإن حلا يتم التفاوض عليه للتنافس الاستراتيجي بينها سيكون من شأنه تسهيل حل نزاعات المنطقة.
ولذا لم نفاجأ كثيرا بما حملته وكالات الأنباء العالمية - قبل أيام - من تصريحات الأمين العام لحلف شمال الأطلسي - الناتو - (ياب دي هوب شيفر) حول قيام الإدارة الأمريكية ودول حلف شمال الأطلسي العاملة في ساحة الحرب الأفغانية، بدراسة احتمال استخدام الأراضي الإيرانية كقاعدة خلفية لدعم العمليات الحربية لحلف الناتو في أفغانستان، وذلك عبر تفاهمات خاصة مع النظام الإيراني. وهو ما أكده - الجنرال - (جون كرادوك) من قيادة حلف شمال الأطلسي، بأن: (قيادة الحلف لن تعترض على أي من الدول الأعضاء في الحلف ترغب في الاتفاق مع إيران، بهدف تمرير الإمدادات لقواتها العاملة في أفغانستان عبر الأراضي الإيرانية).
وفي ضوء كل ذلك، فإن إيران تتمسك بأرجحية الأوراق، وعدم الخوف من تهديدات العصا، أو الارتخاء أمام الجزرة في أية مواجهة قادمة نحو الحرب. وحسب تقارير - البنتاغون - فإن إدراك الأثر المدمر لزيادة الضغوط من خلال فرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على طهران أمر مهم.. مشيرة إلى أن كثيراً من القادة العسكريين في الولايات المتحدة الأمريكية يؤمنون بأهمية البحث عن سبل للتعاون مع إيران في بعض الجوانب المحددة، مثل: الجوانب غير العسكرية في أفغانستان على اعتبار أن ذلك التعاون يمثل بالتأكيد خطوة إيجابية. مما يجعل من المستحيل في الوقت نفسه فرض عقوبة صارمة بما فيه الكفاية لردع نظام طهران عن تطوير البرنامج النووي الإيراني.
المشروع الإيراني اليوم يدخل في مرحلة جديدة، فالأهداف هي -ذاتها - لم تتغير, لكن الآليات اختلفت. فالإيرانيون والأمريكيون لا يريدون أن تسقط أفغانستان في أيدي القوى السنية كحركة طالبان. خاصة أن نظام الثورة الإيرانية قرر المضي في توسيع رقعة نفوذه ليشمل فعليا بلاد - القوقاز وأفغانستان وباكستان وآسيا الوسطى - من أجل إيجاد (إيران الكبرى). ففي أفغانستان وصل الشيعة الجعفرية إلى أرقى المناصب في وزارات الحكومة المختلفة والدوائر السياسية العديدة، وأسندت إليهم سبع وزارات، كما أنهم حصلوا على (20) مقعدا في البرلمان القومي الأفغاني، ويتم حمايتهم وتمويلهم ودعمهم من طرف حكومة إيران. وتساعدهم إيران في شراء المناطق الاستراتيجية في طول أفغانستان وعرضها، ويبنون لأنفسهم مركزا تعليميا في كل ولاية يقوم بنشر الفكر الإيراني وعقيدة الخميني لأبناء أفغانستان، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن إلغاء جمهورية قيرغستان اتفاقية تقديم الدعم اللوجيستي للقوات الأمريكية في أفغانستان عبر أراضيها وتدهور الوضع الأمني في أفغانستان، وارتفاع وتيرة المعارضة الداخلية لدور باكستان في توفير الدعم للمجهود الحربي الأمريكي والغربي في ساحة العمليات الأفغانية، جعل الخطة البديلة تقوم على فكرة إمكانية استخدام أراضي إيران، وهو ما أشار إليه رئيس - مركز الخليج للأبحاث - عبد العزيز عثمان صقر، وذلك لأمرين مهمين:
الأول: أن إيران من الممكن أن توفر الممر الآمن عبر موانئها البحرية وأراضيها ومجالها الجوي، لضمان إيصال تعزيزات القوات الغربية وعمليات استبدالها الدوري، وإيصال الأسلحة والمؤن والمعدات إلى داخل أفغانستان.
الثاني: أن الأراضي الإيرانية من الممكن أن تستخدم كملاذ آمن للقوات الأمريكية والغربية في حالة قيام ظروف خاصة تستوجب الانسحاب الطارئ من الأراضي الأفغانية. وهذا يعني قيام حالة اعتماد كبير على التعاون الإيراني في استمرار الحرب في الساحة الأفغانية الذي أكد الرئيس أوباما أنها ستحظى الأولوية في سياسته الخارجية.
ألم أقل لكم: إن التضليل السياسي فن من فنون السياسة، وعامل أساسي مهم في الصراع بين الدول الكبرى. فالمعيار في طبيعة القرارات، هو: تقاطع المصالح بين الدول. وتبقى الخطب التي يلقيها - الرئيس الإيراني - أحمدي نجاد ضد إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية جعجعة في وسائل الإعلام لأجل استمالة الشارع العربي، وهو ما وصفته صحيفة (كريستيان ساينس مونيتور) الأمريكية: ب(سرقة المفاتيح العاطفية للشارع العربي).
drsasq@gmail.com