Al Jazirah NewsPaper Saturday  28/02/2009 G Issue 13302
السبت 03 ربيع الأول 1430   العدد  13302
بين الكلمات
متلازمة التنظير وذهنية الانشقاق
عبد العزيز السماري

 

لم يخرج الفكر العربي الحديث من دوامة انشقاقاته النظرية، وربما لن يستطيع الخروج منها في المستقبل القريب.. أحياناً أجد نفسي مضطراً للرضوخ لتلك الحالة اليائسة، بسبب حالة الفشل العربية والعجز المستديم عن تجاوز أنساق الانشقاق النظري المستمر، والذي يجد دائماً له أرضاً خصبة له في الدين عندما تدرك عدد التيارات التي انشقت عن التيار السلفي منذ دعوة المجدد - رحمه الله - في القرن السابع عشر، وهو ما يدل أن لا أمل يلوح في أفق الحاضر أو المستقبل القريب، وأن مصاب هذه الأمة لن يختلف كثيراً عما أصابها في قرون سلفت.

ففي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، كان يوجد في الساحة الدعوية المحلية عدة تيارات سلفية.. تتفق في أصول العقيدة، لكنها بالتأكيد مختلفة، وأحياناً متضادة في نظرياته السياسية والاجتماعية، تتخذ أغلبها أسلوب الإقصاء الشديد للمخالف كأحد أهم الأسلحة الفكرية في ثقافتنا المعاصرة، ولكن في أحيان نادرة قد تتفق مع الآخر في سبيل تحقيق أهدافها.

لم تدرك الأغلبية الصامتة جُلَّ تفاصيل الاختلافات بين تلك الاتجاهات، ولو تقصَّينا برامجهم العملية لوجدناها تنقسم إلى ثلاثة اتجاهات: تيار الطاعة لولي أمر المسلمين، وتيار الجهاد النظري بالكلمة والدعوة بالموعظة والفتوى، وتيار الجهاد الحركي الذي يحرض على العنف في المجتمع.. كذلك ينطبق مثل هذا التقسيم على تيارات الإسلام السياسي في بعض البلاد المجاورة، ففي مصر مثلاً.. هناك الأزهر، والنظرية السياسية للإخوان، والحركية الجهادية في تيار التكفيريين.. أيضاً يوجد مثيل لذلك في الجزائر والمغرب..

صبغ إرث الانقسام مختلف الاتجاهات في صدر الإسلام.. فقد انقسم تيار الخوارج إلى فرق عديدة، واختلفت الشيعة والمعتزلة إلى طوائف متفرقة ومتضادة في أحيان كثيرة، كذلك الحال في غيرها من تيارات الإسلام (النظرية)، وما يزيد من الأمر صداماً، هو أن دعاة الأفكار النظرية الجديدة، تقدم تلك الاجتهادات لطلابها على أنها اليقين الملتزم بمثالية الدين الحنيف، وبسلفية الصحابة، والجيل الذهبي في القرون الأولى.. وبواجب الالتزام الحرفي بالاجتهادات المتجددة حسب الموقف السياسي أو الاجتهاد الشرعي لمفتي تلك الطائفة..

لكن الملاحظ خلال العقد الأخير انطفاء أصوات التيارات الإسلامية، وتخلي قياداتها عن العمل الحركي النظري في المجتمع، والتوجه إلى الإعلام حيث النجومية والانتشار، بينما تشهد الساحة ظهور التيار الليبرالي الذي أيضاً مشحون بالتنظير على الهامش، لكن لديه اتجاه حركي ثوري محدد، هدفه إحداث ثورة جنسية على غرار ما حدث في ستينيات القرن الماضي في الغرب.. بينما لا يحفل على سبيل المثال بقضايا الفلاحين الذين سحقتهم المشاريع الزراعية العملاقة أو أزمات البطالة التي هي نتيجة لمنافع عدد هائل من مؤسسات وشركات استقدام العمالة الوافدة.

من يطلع على كتب التاريخ في القرن الثالث والرابع الهجري، ويبحث في ملفات الحركة المدنية في ذلك المجتمع، سيدرك أن الفئات العاملة والمنتجة كانت تتبوأ درك الطبقات الدنيا والهامشية في ذلك الوقت، فلم يكن لها صوت، ولا منظمات، ولم يكن لأعمالهم أو مصالحهم أي ذكر في بنود النظريات المتصارعة في المجتمع؛ فالنُخَب في المجتمع العربي الإسلامي كانت تنحصر في رجال (الطائفة) المنتصرة سياسياً، والشعراء وأعوان القبائل والقادة والجند، بينما تعيش فئات وأعضاء المجتمع المدني العامل في ضائقة وأزمة خانقة منذ القدم إلى اليوم، فلا مؤسسات تكفل حقوقهم، ولا جمعيات تمثلهم أمام الفئات الأخرى في المجتمع.

لا تزال الأغلبية الصامتة تنتظر مرحلة لم تشهدها أمة العرب بعد، عمادها الابتكارات والاكتشافات والتحديث والإنتاج، وسلاحها العقلانية المؤمنة والنفعية الواقعية لتفكيك بعض المفاهيم البائدة والقائمة على الدم والطائفة أو الانشقاق النظري، وإحلال روابط الدولة والمدينة والأرض والثقافة والدين (النقي)، ثم العمل على إزالة جميع حقوق الامتيازات غير القانونية، ووضع الاستراتيجيات التي تؤدي إلى استبدال المفهوم القبلي والطائفي لتركيبة المجتمع بمفهوم المواطنة، وأن تكون السلطة في الحياد، وبمثابة القوة التي تحفظ موازنة الصراعات (النافعة) في المجتمع، لكن في نفس الوقت قادرة على حماية مستقبل الدولة من عبث مواريث لا تتوقف عن عادة الانشقاق النظري.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد