إذا استعرض أي منَّا مسار حياته، سيجد أنَّ في تاريخه كلمة أو كلمات غَيرتْ مجرى حياته، وجعلته آخر غير الذي كان. ربَّما قال كلمات تحمَّل إثرها تبعات ألزمته بأن يكون قدوة في كل خطوة وفي كل عمل يقوم به. فالكلمة كتاب ونبراس، وكم من كلمة صنعت حياة، وأخرى كانت النهاية.
|
إنَّ تنوع مجالات الكلم المقروء والمسموع والمرئي وما يعرف بالتصريح أو التلميح وغير ذلك من أنماط الكلم وأنواعه في جميع وسائل الإعلام التي أصبحت السلطة الأولى في العالم لتدعو إلى التأكيد على أهمية وشرف الكلمة، كما تؤكد على حتمية المشاركة والإدلاء بما نعتقد بصحته وسلامته.
|
وربَّ كلمة قالت لصاحبها دعني، فالكلمة مِلك لك قبل أن تعلنها، وهي تملكك بعد أن أطلقت سراحها، وأنت وكلماتك قرينان، يقول الإمام علي كرم الله وجهه: (المرء مخبوء تحت لسانه)، أي إنما يظهر عقل المرء وفضله مما يصدر عن لسانه. غير أن سحر الكلمة وسطوة البيان قد تقلب الحق باطلاً والباطل حقاً (إن من البيان لسحرا)، أي أن الكلمة قد تصنع في عقل الإنسان كما يصنع الساحر بعينيه فيريه صورة غير الصورة الحقيقة فينخدع بها.
|
وعندما حمل رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الأمانة، كانت كلمة إقرأ هي فاتحة حمل الرسالة، وتحمل المسئولية التي قال جل وعلا في كتابه العزيز (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا). فالمسئولية أتت عن طريق الأمانة التي حملها الإنسان من كلمة، قال الله تبارك وتعالى (وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ). نحن هنا أمام الاستثناء، فجنس الإنسان في خسر، والمطلوب أن نكون من الذين تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر حتى نكون من الفائزين.
|
بالكلمة نستطيع الدخول إلى قلب الآخر وعقله، لأنها فكر، والتفكير يبدأ من القراءة، وبالكلمة يحيا الإنسان ويستمد بقاءه الأزلي، يقول الشاعر:
|
وما من كاتب إلاّ سيفنى |
ويبقي الدهر ما كتبت يداه |
فلا تكتب بكفك غير شيء |
يسرك في القيامة أن تراه |
وقد عرف التأريخ مذاهب ومدارس فكرية ضعيفة في بنائها الفكري، هزيلة في مقومات بقائها، غير أن بلاغة قادتها، وسطوة بيان أربابها قلبتا موازين الحق والباطل فانتشرت مثل هذه المذاهب الهزيلة بسبب الكلمة.
|
وقديماً قيل، إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، وهي مقولة نسبية الصحة مرتبطة بالظروف المحيطة، غير أن المؤكد أن من الكلام ما لا يوزن ولا يقدر بثمن، ولله المثل الأعلى فهذا هو القرآن وحي الله وكلماته، وهذا وحي الله في كلام رسوله الله صلى الله عليه وسلم مشكاة البشرية جمعاء.
|
ولذا فإن كنت قادراً على القول النافع فقل، وأكتب، وتكلم، فأنت مسؤول عمَّا تقول، وأنت مشكور على نبل الهدف. وأنت أيها القارئ أو السامع الحصيف والمتبصر، لك الحكم فيما تسمع أو تقرأ، قال الإمام علي كرم الله وجهه (رحم الله امرأً سمع الحُكم فوعى، ودعي إلى رشادٍ فدنا).
|
وأمانة الكلمة مسؤولية فردية وجماعية، فهي مسؤولية الكاتب والمحدث والمعلم المربي والأسرة الموجهة، وهي مسؤولية المجتمع ليحاكم ويقيم ويستخلص السمين من الكلم، ويوقف الغث والمعيب، وهي مسؤولية القيادة لتمنع الكلم الملوث للبيئة ولتحمي المجتمع من الناعق بالسوء. فحرية الكلمة لا تعني الفوضى، ولا تطلق الآفاق دون حدود، بل تنضبط هذه الحرية الكلامية بالمصلحة والمنفعة التي تقررها معايير المجتمع وقيمه. فالكلمة هواء الفكر وينبغي أن نحرص على أن نستنشق الراوئح الزكية.
|
|