عندما يحقق المرء إنجازاً معيناً، ويتميز في صنع هذا الإنجاز، فإن الحالة المعنوية تفرز مزيجاً من الثقة والفرح والاعتقاد بأنه يختلف عن الآخرين، والأخيرة هي قاصمة الظهر، على حين أن هذا الاعتقاد من شأنه إرباك حالة التوازن، وبالتالي فإن هذا الشعور سيستدرجه إلى خوض مغامرات غير محسوبة في ظل ارتباط مؤشر التوازن المفضي إلى رصد الأقوال والأفعال برؤية واقعية منصفة، وكم تسبب هذا الشعور المسيء في إلحاق الأذى بالآخرين سواء كان معنوياً أو مادياً محسوساً؛ لأن التحليق خارج مدار العقل مصيره السقوط؛ حيث إن معايير السلامة لم تؤخذ بعين الاعتبار طالما كان العقل الذي يصوغ المعايير ويشرف على تطبيقها مبعداً، فالعاطفة هي التي تغذي مرحلة التحليق وتمعن في تضليل صاحبها بإمكانية التحليق، إلا أنه في مرحلة الهبوط سيفتقد أدوات السلامة اللازمة غير المتوافرة في العاطفة، ولا ريب أن النهاية ستكون السقوط والفشل الذريع، وكل ذلك من أجل إشباع الذات المتوشحة بلباس (الأنا) البراق الذي لم يعد ساتراً حينما تتجلى الحقائق وتوضع الأمور في نصابها، حينئذ يكون الندم رصيد المرحلة المتبقية فضلاً عن خروجه من دائرة التصنيف المنطقي المعزز بالكياسة والرصانة والفطنة كذلك، والعبرة في الخواتيم، غير أن المساحة الضبابية التي تنشأ بعد كل إنجاز هي المحك، فهناك من يعبرها بثقة وسلام واطمئنان لأنه حكم العقل واتكأ على بعد النظر، وهناك من يضل الطريق، ويحلق بأجنحة ناسياً أو متناسياً سلامة الوصول، فالمهم أن يعيش في هذه الفترة مخدوعاً ببريق إنجازاته التي تهيئها له حالة التضخم تلك ليغوص فيها بدون قيمة تذكر سوى مرحلة التورم الوقتي والانتفاخات التي تشعره بأنه بات كبيراً وهي لا تعدو كونها بالونات لا تفتأ أن تتهاوى أمام أول اختبار واقعي على الأرض، وفي واقع الأمر فإن هذه المشكلة أزلية لأنها مرتبطة في تكوين الإنسان، غير أن التعامل مع قياس المشاعر وضبطها يختلف من شخص لآخر، فهناك من يستطيع احتواء هذه الأحاسيس وترويضها لصالحه، وهناك من تجمع به وتسقطه لأنها استطاعت الإفلات من رقابته الذاتية وأمعنت في صده عن استعمال عقله، والسؤال هنا: ما هي العوامل التي تسهم في صنع هذه النماذج؟ هل هي الوراثة؟ الإجابة قطعاً لا، لأنها لو كانت كذلك لسقط الجميع في الاختبار، على اعتبار أن هذا الجانب مسلكي بالدرجة الأولى، ومرتبط بالأخلاق عن طريق الاكتساب، إذن هما عنصران لا ثالث لهما يعززان من فرص ضبط هذا السلوك وتقنينه (التربية والتعليم). وحينما أتحدث عن التربية فإني أعني التربية الشاملة بدءا بالالتزام بآداب الدين الحنيف الذي يحثنا على التواضع والعدل والإنصاف، وتشترك الأسرة والمدرسة في تفعيل الجانب الوقائي من خلال الدور التربوي، لأن هذا الأمر كما أسلفت مرتبط بالنفس وطبيعة التكوين، وهنا تكمن صعوبة المرحلة، لأنك لن تضيف جديداً بقدر ما تسهم في إزالة التراكم الذهني نفسي المنشأ المرتبط بهذا الجانب ليحل محله التواضع بحلله الناصعة الجميلة، والذي بدوره سيكون حائط الصد المنيع دون تسلل الكبر إلى النفس، فإذا اقترن الأدب بالسلوك وأحيط العلم بالتواضع فإن هذا مدعاة لتصفية المشاعر وخلوها من الشوائب المضرة، ولعل أقساها التعالي والفوقية ونسف الاحترام بقيمته الجميلة الفذة. إن التركيز على هذه الجوانب في النشء منذ الصغر مسؤولية الجميع، فكما أن للأسرة من أب وأم دوراً في غرس القيم الجميلة في عقول وأفئدة أبنائهم، فإن دور المدرسة لا يقل أثراً في تعزيز وتأصيل هذه الأطر، وبدون تعاون الجميع فإننا سنسهم في تهيئة طواويس عقولها خاوية من العلم والأدب والمعرفة، وثقافتها سطحية طالما أهملت أسس البناء، بل إن مشاعر التعالي المؤذية ستكون سبباً في حدوث المشاكل تلو المشاكل قياساً على التمايز القبلي أو الطبقي، وإذكاء للنعرات التي أشبه بالقنابل الموقوتة، والسبيل إلى عدم نزع فتيلها كما أسلفت بالتمسك بالقيم والتزام المبادئ النبيلة الرافضة لكل تمييز. وأذكر ذات مرة أن قابلت صديقاً وجلس يتحدث وربما تجاوزت كلمة (أنا) في حديثه عشرات المرات، فقلت له مازحاً بعد أن انتهى من حديثه افتح الصندوق، فسأل أي صندوق تقصد؟ فقلت صندوق (الأنا) الذي أخذ الحيز الأكبر من فؤادك لأصب فيه كم لتر من (الأنا) فأنت الكل بالكل.
hamad@asas-re.com