للّغة - أي لغة - أهمية قصوى عبر ارتباطها العضوي الوثيق بالأمة - أي أمة - فغالبا ما تقترن اللغة باسم الأمة وهويتها القومية فيتساوقان جنبا إلى جنب على نحو يميز الأمة عن سواها من الأمم في حالة التعرف عليها أو على الشرائح المنتمية إليها فنقول على سبيل المثال: إن للعرب لغتهم وهي
اللغة العربية وللألمان لغتهم وهي اللغة الألمانية وللفرنسيين لغتهم وهي اللغة الفرنسية ولليونانيين لغتهم وهي اللغة اليونانية ويتخلف عن هذه القاعدة كل المجتمعات التي فقدت لغاتها الأصلية واستمدت لغات قومية أخرى سواء عن سبيل السطوة الاحتلالية والتسلط الاستعماري, أم عن تضعضع لغاتها عن النهوض بمستلزمات ما تفتق عن الذهنية البشرية المعاصرة, ووهنها عن الوفاء بمقتضيات المستجد العلمي ومنجزات الفكر ومستحدثات التكنولوجيا؛ ومثل هذه الوضعية ذائعة لدى منظومة من دول العالم النامي والشعوب العالمثالثية.
فالشعوب الإفريقية المتحدثة باللغة الإنجليزية أو اللغة الفرنسية, وشعوب أمريكا اللاتينية الناطقة باللغة الإسبانية أو اللغة البرتغالية, واللغة الإنجليزية في الهند مقابل تنوع اللغات المحلية, فيها أمثلة على اكتساب هذه الشعوب لغات لا تعبر عن هويتها القومية. إننا لا نجافي المنطق الواقعي إذا أكدنا أن للغة العربية خصوصيات وامتيازات ذاتية تتميز جراءها عن متباين لغات العالم ويكفيها فخرا واعتزازا أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم باشر وظيفته التثقيفية عبرها, حيث مثلت العربية أبرزت مظهرات هذا الفكر التقويمي المستجد فقد انزل الله الوحي بلسان عربي جلي البيان وكان على إثر ذلك لهذه الدعوة ثلاثة أبعاد تتمثل في:
أولا: تنزيل البيان القرآني بلغة عربية تحيل العرب إلى نسيج اجتماعي ينتظمه لغة موحدة. هذه اللغة تحضه على التأمل المعمق لاستكناه إيحاءاتها الدلالية وما تضمه بين جوانحها من الوجوه الإعجازية على كافة الصُعد. لقد حوت محتوياتها النصية على زخم مفرداتي رحب وكمّ عباراتي ثرّ, بات لاحقا مصطلحات محورية في النظام اللغوي, إذ لم يقتصر الوحي على ذكر الشؤون ذات الطابع الديني والاجتماعي فحسب بل غادر ذلك نحو نعت جملة من التمظهرات الطبيعية والكونية والبشرية إضافة إلى دعوته الصريحة إلى الأخذ بأسباب العلم المرشحة لوعي القدرة الإلهية في تسخير جميع المخلوقات على ضوء نواميس مقننة.
ثانيا: العربية باتت لغة التعبير المعتبرة عن الإرادة الإلهية والفعل الإنساني المتمثل في ذلك الرسول الحق صلى الله عليه وسلم الذي يتعاطى العربية بحسبها اللغة الأم ويقود توجها حضاريا ويوجهه إلى معانقة آفاق السمو, فيبيت هذا القائد الملهم, المثال الذي تجسد فيه الحد الأعلى من الكمال المتاح للبشر والقدوة الفائقة الروعة التي يتوخى البشر جميعا النسج على منوالها وتكرار نمطها السلوكي والاستضاءة برؤيتها الفسيحة المدى.
ثالثا: أمة ذات لسان عربي تدلف إلى الحياة رافعة راية محمدية وناهضة برسالة سماوية المصدر إلى العالم عن بكرة أبيه. هذه الأمة درجت في مدارج الوعي وتصلب عودها في ظل الإسلام لتكون من ثم أمة يقع على عاتقها لعب دور المنتج التنويري لترشيد سواها ودفعه نحو الصراط السوي البالغ الامان. لقد منح الإسلام هذه اللغة بعدا دينيا شاع متجليا في كل تمظهرات الحياة الدينية عند العرب وعند سواهم من الشعوب التي دلفت أفواجا إثر أفواج تروم الانضواء تحت راية هذا الدين فتضاعف من ثم اعتداد العربي بلغته التي هي لغة الأرض والسماء وتضاعف اعتداده بها لما عاين المعجزة تتمظهر في ذلك الخطاب السماوي الأخير الموجه للبشرية على كوكب الأرض.
وكان ثمة انعكاسات عاملة في الإيجاب لهذا الاعتداد تجلى هذا في التعلق الوجداني بها ومن ثم الاشتغال على تعميق التأمل في بنيتها وفي مفرداتها وتوسيع دائرة ذلك. لقد تعالى مستوى إخلاص العربي للغته وتفانى في سبيل بقائها على درجة عالية من النقاء وتضاعف هذا الشأن عندما بدأت حركة سياسية وفكرية تتمثل في (الشعوبية) التي تجلى شنآنها للغة التنزيل, متبرجا في أبشع صوره, وبات سافراً عداؤها المسعور على نحو حداها إلى الاشتغال على التحجيم من شأن كل ما هو ذا طابع عربي مقابل التجسيد التبجيلي لكل ما هو فارسي أو ما يمت إليه بوشيجة, والعمل على برهنة بزّه لما سواه في السياسة والحكم والأدب والعلم والفلسفة وكان ثمة لون من الاستبسال العربي في الرد حيث انبرت فعاليات ثقافية من الخط الفكري العربي لمنازلة الشعوبية، وقد أبلى الاصمعي والجاحظ بلاء حسنا في هذا السياق وجرى تصعيد وتيرة العناية بعلوم العربية. هذه الشعوبية القالية بحدة للعربية ورّثت من يحيي أفكارها عبر تلك القوى الأجنبية نائية الغوْر في مناوءة اللغة والتي وعت محورية اللغة العربية ومدى ما تحدثه من أثر في تماسك الوجود القومي العربي فاندفعت باتجاه اعتماد قوالب متعددة تتغيا عبرها بتّ البعد الوشائجي بين العربي ولغته واستبدال ذلك بلغة القوة الإمبريالية أو على أقل تقدير الاشتغال على تأصيل اللهجات المحلية وإشاعة العامية وتسهيل سبل شيوعها. هذه السياسات الاستراتيجية التي تتوخى تصفية اللغة العربية وتحجيم مداها كلغة رصينة للعلوم الإنسانية من أبرزها في العصر الحديث ما يلي:
أولاً: الاستراتيجية السياسية التي توسلها الأتراك في جملة من الأقطار العربية والدعوة التي تبنوها طمعا في تتريك الشعوب غير التركية ومنها الشعب العربي وذلك بواسطة تكثيف العقابيل المعرقلة لتوسل اللغة العربية في السبل التعبيرية والاكتفاء بدلا منها بتعاطي اللغة التركية في الحديث والمعاملات في الدوائر الرسمية قناعة منهم بأن هذا من شأنه - في حال جريان تفعيله - إلحاق الشعب العربي بالترك ولكن الذي حدث هو أن هذا المشروع باء بفشل ذريع وكان مآله الإخفاق التام لعلة في غاية البساطة هي بقاء القرآن الكريم باللغة العربية وضرورة قراءة الآيات خمس مرات في اليوم إبان التلبس بالصلاة إضافة إلى تلاوة الآي القرآني في جملة من الشعائر الدينية وغير الدينية كما كان للمساجد أثر حيوي في استمرار العربية عبر تدريس الناشئة نصوص الوحيين وما يتصل بهما من فنون فقهية وتفسيرية وعقدية ونحوها.
ثانيا: الآلية السياسية التي انتخبها الفرنسيون في المناطق العربية التي احتلوها وخصوصا في أقطار الشمال الإفريقي حيث هيمنت الفرانكفونية على جلّ مفاصل الحياة مما آل إلى انزواء العربية في بقعة قصية فلا تتداول إلا في المساجد والمناطق الريفية التي تعيش تحت خط الفقر. وهنا يتصدى الإسلام كرّة أخرى لهذه الظاهرة فيبدأ التململ الشعبي ويتعالى أوار الثورة رويدا رويدا من قلب الصحراء والريف لتحرر العربي من الهيمنة الاستعمارية وتعيد إليه لغته الأم وتتكثف طرق الدعاية للوحدة العربية تأكيد التواصل الوجود القومي العربي.
Abdalla_2015@hotmail.com