في خطاب النصر الغريب الذي ألقاه بنيامين نتنياهو أثناء الليلة الغريبة التي أعقبت الانتخابات قال: (لقد تكلم الناخبون). وهذا ما حدث بالفعل، لقد تكلم الناخبون ولكن في خليط متعدد من الأصوات المتناقضة المتنافرة.
مرحباً بكم في عالم الديمقراطية البرلمانية الإسرائيلية المجنون. لقد هبط النظام السياسي الأكثر اختلاطاً في العالم هبوطاً اضطرارياً على طريق مسدود.
تزعم إحدى النكات المحلية أن الأحزاب لدى الإسرائيليين أكثر من الناخبين. وإذا كانت الأنظمة الديمقراطية الأخرى تتباهى بما لديها من أحزاب اليمين والوسط واليسار، فنحن لدينا أحزاب يهودية وعربية، وعلمانية ودينية، ومسالمة ومتشددة، واشتراكية ومناصرة لحرية السوق. وفي النهاية تنقسم كل مجموعة على نفسها في تقاطعات ديناميكية من العقائد والمصالح والأفكار والرغبات.
إن ما يعتبره علماء السياسة فردوساً قد يشكل كابوساً بالنسبة لكل من يحاول حكم هذا البلد على نحو جاد مخلص. ولكن هذه الانتخابات ساقت إسرائيل إلى (أم المآزق).
قد يكمن في كل هذا نعمة مستترة، ولكن النِقَم أشد وضوحاً. والنقمة الأعظم تتمثّل في عجز إسرائيل عن رفع زعاماتها إلى مستوى من القوة يسمح لها بصنع السلام. فحتى رؤساء الوزارات الضعفاء قد يكون بوسعهم شن الحروب، ولكن الأمر يتطلب زعيماً مثل مناحم بيغن أو إسحق رابين لسلوك الطريق المعاكس. إن أمثال هؤلاء الزعماء نادرون، والنظام الانتخابي يتحمل المسؤولية عن هذه الندرة جزئياً.
لقد ظلت هذه الديمقراطية لسنوات طويلة تعرج على عكاكيز، مع انبثاق العديد من الأحزاب الصغيرة والكبيرة التي انهارت واختفت ثم عادت إلى الحياة من جديد مراراً وتكراراً. ولم يُكتَب إلا لقِلة من الحكومات البقاء إلى نهاية ولايتها الطبيعية التي تتألف من أربعة أعوام. فتبادل اليمين واليسار الأقدمية حول قطب الوسط الذي لم يكن له وجود إلا بالكاد. وحتى انفصال شارون عن حزب الليكود وتأسيس حزب كاديما، الذي يُعَد تجسيداً حقيقياً لإسرائيل المتوسطة المعتدلة، لم يكن كافياً للتراجع عن حالة الجمود.
ولنتأمل هنا الخريطة السياسية الجديدة: حزب كاديما تحت زعامة تسيبي ليفني بثمانية وعشرين مقعداً في الكنيست، وحزب الليكود تحت زعامة بنيامين نتنياهو بسبعة وعشرين مقعداً، وكل منهما ألقى خطاب نصر رناناً في ليلة مثيرة للدوار. فادعت تسيبي لنفسها النصر لأنها تقود أكبر حزب، وادعى (بيبي) لنفسه النصر لأنه يقود أضخم كتلة. وهو محق في هذا بالتأكيد: فقد وقفت كل أحزاب يمين الوسط الستة وراء ترشيحه، وهي الأحزاب التي كثيراً ما يمسك كل منها بخناق الآخر. ولكنها أيضاً محقة في ادعائها: فقد فاز حزب كاديما بعدد من المقاعد يفوق ما فاز به حزب الليكود، وأثبت خطأ نبوءات الهلاك، وبرز بوصفه الحزب الرئيسي الوحيد الذي يحمل رسالة متفائلة وساعية إلى السلام.
أما افيغدور ليبرمان الروسي المولد والعلماني المتشدد، فقد حصل لحزبه المتشدد إسرائيل بيتنا على خمسة عشر مقعداً. في أعقاب حرب غزة امتطى ليبرمان بشكل حاذق موجة التشدد، فطالب المواطنين من عرب إسرائيل بالإعلان عن ولائهم لإسرائيل. ومن المرجح الآن أن يلعب دور صانع الزعماء صاحب النفوذ والقادر على دعم أداء نتنياهو الهزيل بفضل كتلته الثابتة المؤلفة من يمين الوسط.
يأتي حزب العمل تحت زعامة إيهود باراك في المركز الرابع بثلاثة عشر مقعداً فقط. وما لم ينضم إلى كاديما أو الليكود، أو الحزبين معاً، في فريق واحد فإن حزب العمل سوف يخرج إلى الصحراء في رحلة للبحث عن الذات. ولكن لن تحين ساعة وفاة حزب العمل قريباً: ففي إسرائيل تتسم الصقور والحمائم على السواء بصفات العنقاء.
إذا رأيتم أن الأرقام أصغر مما ينبغي بالنسبة لكبار اللاعبين، فإليكم السر: سوف تنشغل مقاعد الكنيست المائة والعشرين بالأحزاب الأصغر حجماً، التي يتألف كل منها من اثنين إلى أحد عشر من الساسة المتحمسين. والأحزاب العربية من بين هذه الأحزاب، علاوة على كسور من أقصى اليمين وأقصى اليسار.
وعلى هذا النحو كان الكنيست يتألف منذ قيام دولة إسرائيل: فكلما كان أكثر فوضى كان أشد مرحاً وإبهاجاً. ولكن لم يحدث من قبل قط أن وقعت الأحزاب الرئيسية في مثل هذا المأزق المحبوك.
إذن، هل يستدعي رئيس الدولة ليفني أم نتنياهو لتكليفها أو تكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة؟ إن شيمون بيريز رجل سياسة مخضرم، وقد يمنح منصبه الشرفي دوراً جديداً من خلال مساعدة كافة الأطراف للخروج من هذه الفوضى المختلطة.
يستطيع بيريز على سبيل المثال أن يجعل كلاً من ليفني ونتنياهو رئيساً للوزراء على أساس فترة ولاية مدتها سنتين لكل منهما. وهكذا فقد تتمكن إسرائيل من الخروج من هذا المستنقع السياسي الموحل عن طريق تقاسم أعلى المناصب. وهناك حل بديل يتلخص في تنازل ليفني عن نصرها لنتنياهو رغم تقدمها الانتخابي بفارق ضئيل للغاية، فتخدم في حكومته، وتستغل ثِقَلها لصالح الاعتدال.
إن ليفني التي صارت زعيمة مقبولة على نطاق واسع في غضون مدة قصيرة تستحق قيمتها، فقد تحدثت بصوت عال عن السلام مع الفلسطينيين في آخر أيام حملتها، ولم يلحق بها ذلك التصرف أي قدر من الضرر حين ذهب الناخبون إلى صناديق الاقتراع. والحقيقة أنها تشكل الأنباء الطيبة القليلة في هذه الانتخابات: وخلاصة هذه الأنباء أن إسرائيل المتوسطة ما زالت حية وضخمة، رغم أنها عاجزة عن العمل بفعالية كما ينبغي لها أن تعمل. إن تل أبيب التي صوتت لصالح ليفني ومن هم إلى اليسار منها، لا بد وأن تكون قادرة في النهاية على الصمود في مواجهة القدس التي صوتت لصالح نتنياهو ومن هم إلى اليمين منه. إن هذه الانتخابات قد تبدو وكأنها نداء لإيقاظ المعتدلين من سباتهم، وليفني هي زعيمتهم المجَرَّبة.
والأهم من ذلك النداء، كان نداء الإيقاظ الدستوري. إن الزعماء الرئيسيين الثلاثة يتفقون الآن على ضرورة إعادة النظر في النظام السياسي المتداعي. فحتى الإسرائيليين، كما يقولون، لا بد أن يكونوا قادرين على العمل في ظل نظام حزبي ثنائي. حسناً، ثلاثة أحزاب. وللمزيد من الواقعية فلنقل خمسة. ولكن أكثر من ذلك فهو عبث واضح.
يتعين على إسرائيل أن تتعلم كيف تتكلم بألسنة سياسية أقل. فهذا هو السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق الخطير في هذه اللحظة التاريخية الخطيرة. ولن تضعف الديمقراطية في إسرائيل حين تصبح أكثر ترتيباً، بل إنها ستصبح أكثر قدرة على النمو. ذلك أن الخيارات الأقل قد تكون في بعض الأحيان السمة المميزة للنضج، وهذا لا ينطبق على عالم السياسة وحده.
ولكن هل من الوارد أن تتحقق هذه الغاية؟ أجل. وخطط الإصلاح الدستوري مطروحة بالفعل. ويتعين على الأحزاب الأكبر أن تتجاهل المصالح المكتسبة لشركائها من الأحزاب الأصغر حجماً، وأن تعمل على رفع متطلبات دخول الكنيست بصورة ملموسة.
سوف يتعلم الناخبون تقديم التنازلات، فيستعيضون عن الأحزاب المفصلة حسب المقاس بعدد أقل من الأحزاب المتماسكة المتاحة بالفعل. ولسوف يكون بوسع رؤساء الوزارات أن يحكموا لمدة ولاية كاملة بفضل أغلبية مريحة كافية. وفي النهاية سوف يصبح في الإمكان اتخاذ القرارات الصعبة بدلاً من تأجيلها على هذا النحو بالغ الغرابة: سواء القرارات التي تتصل بالسلام مع الفلسطينيين أو سوريا، أو فيما يرتبط بالاقتصاد أو العدالة الاجتماعية أو التعليم.
آنذاك فقط سوف تتمكن إسرائيل من التحدث إلى العالم، وبصورة خاصة جيرانها العرب، بصوت واضح وعملي. والحقيقة أنني أتمنى، وإن كنت لا أستطيع أن أعِد بهذا، أن يكون ذلك الصوت هو صوت إسرائيل المعتدلة المتزن.
* تل أبيب
فانيا أوز سالزبيرجر أستاذة ورئيسة قسم الدراسات الإسرائيلية الحديثة بجامعة موناش في ملبورن بأستراليا، ومديرة منتدى بوزِن لأبحاث الفكر السياسي التابع لكلية الحقوق بجامعة حيفا بإسرائيل. ومن بين مؤلفاتها كتاب (ترجمة التنوير) وكتاب (إسرائيليون في برلين).
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت - 2009 .
www.project-syndicate.org