Al Jazirah NewsPaper Sunday  15/02/2009 G Issue 13289
الأحد 20 صفر 1430   العدد  13289
من الوهابية ومروراً بالجامية وإلى الليبرالية
قراءة في أيدولوجيا التحزيب والتصنيف!
د. محمد بن عبد الله العوين

 

في خضم هذه الفوضى العاتية التي تعصف بالبيئة الفكرية والثقافية، وتكاد تخلق عداوات وإحناً ومواجهات كتابية وكلامية بين المنتمين لهذه التيارات التي تبدأ بأطياف متدرجة من أقصى اليمين حيث (السلفية الوهابية) وما انتمى إليها أو فرخ منها ومروراً بالحركات الإسلامية الحزبية السياسية التي تبدأ بجماعة الاخوان المسلمين وما تفرع منها أو فرخ منها كجماعة المسلمين

(التكفير والهجرة) و(القاعدة) الجهادية وانتهاء بأقصى حدود الطيف من الشمال الفكر العلماني أو الليبرالي أو حتى الإلحادي.

إننا نشهد في ساحتنا الثقافية اليوم خصاماً حقيقياً، كثير منه غير شريف وغير أخلاقي، وبعضه ناتج عن نقمة اجتماعية أو سياسية أو طبقية أو تقاليدية، وبعضه الآخر ناتج عن إجهاض تيار آخر، فاستغل المتفرج الليبرالي المنتظر الفرصة لهزيمة الخصم فكال له مزيداً من الضربات تحت الحزام!!

نشهد خصاماً بين التيارات وصل في بعض مراحله إلى العنف والتجنيد والاستقطاب والتخريب والتنظيم لتقويض دعائم هذا المجتمع وزعزعة كيانه وهز استقراره للتشكيك في قدرة قيادته على ضبط الأمن وحماية المصالح الاقتصادية، كما حدث في ضرب المنشآت البترولية في ينبع، وكما حدث في المحاولة الفاشلة لضرب المصالح البترولية في الجبيل، إن الأمر ليس هيناً أبداً وهو على هذا النحو من العداء وإضمار السوء ليس للسلطة السياسية فحسب بل للمجتمع السعودي بأسره هو صراع (قاعدي) ذميم، نابع من فكر فج، ومنبثق من عقل يستمد أحكامه ورؤاه من تجارب بائسة تخرجت في ظلام سجون شمس بدران وحمزة بسيوني وعلي شفيق صفوت.

ولأن الأمر ليس كما يبدو في ظاهره وكما توحي به الاستدلالات والمقاصد الدينية الجلية الواضحة، بل هو أبعد من ظاهرة النص، وأكثر غوراً إلى توظيف النص الديني المقدس ورفع الراية التي يجلها ويعظمها كل مسلم للوصول إلى تحقيق مفهوم (الحاكمية) وفق رؤية سيد قطب أو شيخه أبي الأعلى المودودي، ولأن الصراع بين أجنحة الفكر على هذا النحو قد تجاوز الجدل والمماحكة والرد ونقضه إلى ما هو أكثر فداحة وخطراً، وهو أمن الشعوب وسلامتها وعلاقات الدول، واقتصاداتها فإن القضية لا تظل فكرية وفق هذا المفهوم ولا نخبوية ثقافية ولا جهادية تكتسب القداسة بل هي قضية إنسانية، تعني في أولى مقاصدها إجلال واحترام دم الإنسان أياً كان انتماؤه أو عقيدته وتعني كذلك أمن الانسان في كل بقاع الدنيا ومنجزاته الحضارية وتقدمه وقيمه وعلاقاته السوية القائمة على تبادل المصالح والتثاقف والتواصل، لأن قتل النفس الواحدة في المفهوم القرآني الكريم تعادل قتل الناس جميعاً، وهي واردة في سياق الآية بلفظ النكرة (نفس) بما يوحي أي نفس تقتل بغير حق ودونما سبب بين كانتزاع حق أو دفاع عن عرض أو أرض أو سيادة.

وما يوحي بخطر الفكر الراديكالي المتطرف الذي يعلن أنه وحده المفسر للحقيقة، والقابض على اليقين والمنتج لقيم الخير وما سواه أشرار وفجار لا مناص من اجتثاثهم وحربهم ما خرج به بيان وزارة الداخلية الأخير الذي تضمن خمسة وثمانين اسماً من مختلف المشارب والمناطق والبيئات والأعمار فيهم من يحمل شهادة الجامعة ومن لا يحمل سوى الابتدائية وفيهم من يبلغ خمسة وأربعين عاماً ومن هو على مشارف العشرين مما يعني أن الاستقطاب لهذا الفكر مازال على وتيرته السابقة، وأن ما يعرف بالمناصحة لم يصل إلى تحقيق الغايات المرجوة في إعادة هؤلاء المغرر بهم إلى جادة الاستواء والاعتدال، وأن نفراً منهم استمع إلى الواعظيين والمرشدين والناصحين وأعلن لهم توبته وأظهر استقامته بعد سنوات من العذاب في جوانتانامو وقبلها سنوات من الصراع في جبهات قتالية متعددة!

وذلك يستوجب إعادة النظر في أسلوب عمل لجان المناصحة تلك وتقويم نتائجها والتأمل في أساليب عمل الخلايا المتطرفة النائمة ووسائلها في استقطاب الشبان الجدد واستمالتهم والبحث عن الأسباب الحقيقية الكامنة التي قد لا تبدو أولا تظهر في الخطاب المتطرف التي يستميل بها دعاته فئة الشبان ويؤثرون بها عليهم ولنواجه الحقيقة مهما كانت مؤلمة أو قاسية فإذا وصلنا إلى الأسباب أو السلبيات التي يجعلها الفكر المتطرف مشجباً يبرر بها أفعاله، ويدعو إلى التخريب والقتل وإثارة القلاقل ومحاولة زعزعة الأمن بسببها فعلينا ن نتبصر بها ونصلحها لقطع الطريق على الفكر المتطرف ومنعه من اختطاف أبنائنا بحججه ومقولاته وإبانة شبهه وكشفها والرد عليها، وتفنيد مزاعمه بقوة الدليل الشرعي والمنطق العقلي والمصلحة الوطنية للمجتمع كله.

إن هذا المعترك الفكري الذي يومض جمره المتوقد تحت الرماد بين فينة وأخرى يضع أيدينا على النتوءات البارزة في الساحة الفكرية وما تشهده من جدل وصراعات وتقسيمات وتصنيفات جعلت الناس شيعاً وأصنافاً وتيارات لا يكشفها سوى ما نراه اليوم من مظاهر لهذا الصراع الفكري العنيف، إما في خلية ارهابية تكشف أو هجوم على مسرحية تعرض أو تنابز ساخط في منتديات الانترنت بين أقطاب التيارين واستخدام كل عبارات الهجاء والاقذاع فيه والتعرية والتسقط وتشويه السمعة في سياقات كتابية هي أقرب إلى العداء وزرع الكراهية من الحوار والتثاقف والرغبة في الوصول إلى الحقيقة وفق قيم الحوار وأخلاقياته الرفيعة.

ومنذ أن قوي الفكر السلفي في بلادنا بحركة الإمام محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود الاصلاحية قبل ما يقرب من ثلاثة قرون لم يكتب التاريخ محاولات مندفعة باستماتة للانقضاض على (السلفية) الوهابية - إذا صح التعبير - كما يحدث الآن والمثير للسخرية المرة أن من يسعى للتأليب على سلفية ابن عبد الوهاب هو من تخرج وترعرع على ثقافة التراث الوهابي العريض بدءاً بأول تلامذة ابن عبد الوهاب وانتهاء بآخر تلامذته المؤثرين الشيخ ابن باز - رحمه الله -!!

وليس بعيداً عن الصواب الادعاء بأن كل مصلح ديني في بدايات النهضة العربية والإسلامية يقترب قليلاً أو كثيراً من المنطلقات التجديدية التي رأى الشيخ ابن عبد الوهاب أن مرجعية التجديد الإسلامي ليس لها بد من العودة إليها وهي: إخلاص المفهوم العقدي لله وحده والتبرؤ من الوسائط والأولياء، واستمراء الرؤى والتفسيرات والاجتهادات من السلف الصالح ومن العلماء المجتهدين الآخذين بالرجوع إلى الكتاب والسنة وهم كثر وعلى رأسهم الامام أحمد بن حنبل وابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية.

ولقد واجه الفكر الاصلاحي الوهابي حملة شعواء في ذلك الوقت ليست بعيدة عن هذه الحملة التي يواجهها الآن وإن بأساليب مختلفة فثار ضده أقرب المقربين كأخيه الشيخ سليمان في كتابه المعروف (الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية) انظر: دار ذوالفقار - بيروت ط1، 1998م تحقيق السيد السراوي، وانتقد فكر الشيخ كثيرون مثل: محمد بن عفالق في رسالته (تهكم المقلدين بمن ادعى تجديد الدين) مخطوطة - مكتبة برلين برقم 2157، ولكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يدع لخصومه فرصة إذاعة مقولاتهم فرد عليهم ردوداً طويلة مفحمة بين فيها الأصول التي يدعو إليها ومظاهر الشرك التي يحذر منها وخاطب الخصوم والمواجهين بأساليب مختلفة؛ بين الشدة واللين، والبسط والقبض، حسب المخاطب واستعداده وقسوته في الخصومة أو ليونته؛ تبين ذلك في رسائله الوافرة التي جمعها عبدالرحمن بن محمد بن قاسم في كتابه الشهير (الدرر السنية في الأجوبة النجدية مجموع رسائل ومسائل علماء نجد الأعلام) وقد خرج الكتاب في طبعته الأولى عام 1352هـ على نفقة المغفور له الملك عبدالعزيز - رحمه الله - وقد أمر بطباعته في مطبعة أم القرى بمكة المكرمة، وهو كتاب ضخم يقع في طبعته الأولى التي بين يدي في ثمانية أجزاء، ويضم إلى جانب رسائل الشيخ رسائل نفر كبيرمن علماء الدعوة الإصلاحية، ونستطيع أن نستنبط من جل هذه الرسائل أحكاما وإشارات على كثير من القضايا الدينية والاختلافات الفقهية، والصراعات السياسية، والتوترات المذهبية، ويمكن أن نلحظ زخم تزاحم المذاهب والاجتهادات ورموز الفقه على احتلال فضاءات التأثير في البيئات الاجتماعية والشعبية منها على الأخص.

لقد تربى وتتلمذ على فكر ابن عبدالوهاب مدارس مختلفة على مدى هذه القرون الثلاثة، بعضها سلفي معتدل، وبعضها خرج على الإمام نفسه، وبعضها أخذ منه القليل وأضاف له الكثير المستجد؛ لأن (الفكر) يتلاقح وينمو ويمتد، فقد وصلت سطوة فكر ابن عبدالوهاب الإصلاحي إلى الشام والعراق ومصر وجزء من بلدان المغرب، بيد أن الأكثر الأكبر كان في البيئة المصرية على الرغم من موقف كثير من علماء الأزهر المعارض اتجاه الشيخ؛ فنشأت هناك جماعة أنصار السنة المحمدية السلفية، وكان من الملحوظ وجود شيء من التأثير الوهابي في فكر جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده، وتلميذه محمد رشيد رضا.

ومن الجلي أن (السلفية) التي تبناها ابن عبدالوهاب ليست مذهبا معروفا كأحد المذاهب الأربعة الشهيرة؛ بل هي مجموعة أفكار إصلاحية تهدف إلى العودة إلى المنابع الأولى في التشريع، وما كان عليه السلف الصالح، وما أجمع عليه علماء الأمة؛ ولعل ما يصطخب به العالم العربي والإٍسلامي من تيارات واتجاهات وجماعات من النقيض إلى النقيض تكشف بكل الجلاء والموضوعية حاجة الأمة إلى إصلاح فكري اجتهادي يقودها إلى الاجتماع والاتحاد والتقارب؛ كما كانت غايات الشيخ الكبرى؛ ويكون أيضا قابلا للتطوير والإضافة والتجديد، كما هي عليه الدعوة الإسلامية التي قامت عليها، هذه الدولة المباركة؛ بحيث نمت نموا طبيعيا، وطورت نفسها، وحدثت رؤاها، وواجهت من شذ عن اعتدال النهج الإصلاحي وردته إلى جادة الصواب، أو أخمدت فتنته كما هو مدون في تأريخ الدولة السعودية.

وربما يجد الباحث في كتابات المؤرخين كثيرا من اللغو واللغط والزيادة والنقصان، أو ربما القصد العمد للمغامز والتنقص في بعض المواقف الفكرية، وهذا لا يعني أن الحركة الإصلاحية للشيخ غير قابلة للنقد، أو مترفعة عن الدرس والتأمل والتقويم والإضافة؛ ولكن الشرط في ذلك كله طلب الإنصاف والحق والعدل، والالتزام بالموضوعية؛ فلا قداسة لأحد، ولا أحد يعلو على النقد أو التقويم أو التقول والدرس سوى الأنبياء. أما المصلحون فما قاموا إلا لإظهار ميزان الحق والعدل وتثبيت عرى الفضيلة والقيم والخير والسعي إلى الحق أينما كان.

ومن المناسب أن أشير إلى اجتهاد منصف لباحثين لهما نصيب كبير من التوفيق في درس غايات الفكر الإصلاحي من خلال سيرة الإمام؛ وهما: الدكتور عبدالله الصالح العثيمين في كتابه: الشيخ محمد بن عبدالوهاب - حياته وفكره (دار العلوم - تنظر الطبعة الثانية 1986م) والدكتور محمد بن عبدالله السكاكر في كتابه: الإمام محمد بن عبدالوهاب - حياته، آثاره، دعوته السلفية. (مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، ط1، 1919م). وهذا الكتاب يتفوق على سابقه في سبر أغوار فكر الشيخ والتوقف طويلا عند اتجاهات ومقولات معارضيه، وسرد نصوص من تلك المقولات موثقة؛ بينما يعمد الكتاب الأول للدكتور العثيمين إلى التوقف عند السياق التاريخي، والإشارة إلى مراحل الدعوة، وإلى أفكار الإمام وبعض تلامذته، وآثاره، وشيء قليل من معارضيه.

كان الصراع في مطلع النهضة قبل أكثر من قرن من الزمان يكاد ينحصر في اتجاهين إسلاميين: ما يعرف بالوهابية، ويقابلها الاتجاه الصوفي بمفهوماته المختلفة، هذا في جانب، وفي الجانب الآخر الاتجاه التحديثي التغريبي الذي يدعو إلى تقليد النموذج الغربي، وبناء الحياة العربية والإسلامية على التمدن الأوروبي كما هو الحال - آنذاك - في الدعوات التحديثية عند رموز مطلع القرن العشرين مثل: أحمد لطفي السيد، وعلي عبدالرازق، وطه حسين، وقاسم أمين، وغيرهم. ولكن الصراع اليوم ليس بين جبهتين فقط؛ إسلامية وتغريبية مثلا، كما كان في السابق! بل بين أطياف متعددة في التيار الإسلامي تنوء على الحصر والعد، وأطياف أخرى متعددة في التيار التحديثي؛ وكل طرف يشنع على صاحبه في التيار الواحد، بل لا يهجوه ويقذع في ذلك فحسب إنما يتقصاه ويلاحقه بالنفي والويل والثبور إلى أن يخرجه من التيار كله أو يكاد!!

ففي الجانب الإسلامي؛ هذا المعسكر الفكري الواسع الممتد بمساحة العالم الإسلامي لا نجد اتفاقا أو تقاربا في المواقف الفكرية بين اتجاهين؛ لأن كل حركة أو جماعة تدعي الهيمنة على الحقيقة؛ ومن خالفها تنال الاتهامات، ويلاحقه التنقص والوعد بالطرد من رحمة الله في الآخرة، أو التصفية قبل ذلك الدنيا، فالإخوان المسلمون يتهمون خصومهم بالجامية أتباع محمد أمان الجامي الذين يجاملون السلطان، وهؤلاء يتهمون الإخوان بالحزبية والتأليب والدعوة إلى الخروج على الولاة ونزع البيعة وإثارة الفتنة!! وجماعة الإخوان المسلمين ليسوا جماعة واحدة، صحيح أن مؤسس الجماعة يكاد يجمع عليه وهو الشيخ حسن البنا الذي اغتيل عام 1949م إلا أن الفكر الإخواني انقسم على نفسه بين الاعتدال والتشدد، وبين التسامح والدموية؛ فثمة إخوان قطبيون، وسروريون (نسبة إلى محمد سرور نايف زين العابدين) وشكريون (نسبة إلى شكري مصطفى أحمد زعماء جماعة التكفير والهجرة التي اغتالت الذهبي وزير الأوقاف بالزاوية الحمراء) وقد أسسها شكري عام 1969م، و تتبنى مفهوم جاهلية العصر، والحاكمية التي قال بها في البدء سيد قطب.

ومن عباءة جماعة الإخوان خرجت جماعات وحركات عدة؛ منها: الجماعة الإسلامية التي مثلها محمد شوقي الإسلامبولي وعبود الزمر، وجماعة التكفير والهجرة، والأفغان العرب، والجهاد الإسلامي التي يمثلها أيمن الظواهري، والذي أنتج لاحقاً مع ابن لادن جماعة (القاعدة) التي تتبنى الصدام والمواجهة العسكرية ونظرية الفسطاطين (مؤمن وكافر)!.

وتأثر أو استمد من فكر جماعة الإخوان المسلمين حركات كثيرة هي عيال عليها؛ مثل: حركة المجتمع الإسلامي في الجزائر (محفوظ بن نحناح) وحركة التوحيد الإسلامي في لبنان (سعيد شعبان) والجيش الإسلامي للإنقاذ في الجزائر عباسي مدني وعلي بلحاج، وحركة المقاومة الإسلامية في فلسطين (حماس) أحمد ياسين، وحزب التحرير الإسلامي في الأردن وفلسطين الذي أسسه تقي الدين النبهاني عام 1952م وهو منشق في الأساس من فكر الإخوان، وميال إلى نهج الحاج أمين الحسيني، وحركة النهضة الإسلامية في تونس ومؤسسها راشد الغنوشي، وجمعية الإصلاح الاجتماعي في الكويت التي أسسها عبدالله المطوع وآخرون ويصدر عنها مجلة (المجتمع) وكذلك جماعة العدل والإحسان في المغرب (عبدالسلام ياسين) وغيرها.

والانقسام في المعسكر الإسلامي لا يتوقف عند الإخوانية ونقيضها الجامية، فإن لم تكن كذلك فلربما تكون: وهابياً أو سلفياً أو صوفياً أو جهادياً أو سلفياً جهادياً أو عصرانياً أو طالبانياً أو قاعدياً أو تبليغياً أو فطرياً، أي من أتباع (جماعة الفطرة) التي تحرم وسائل الحياة الحديثة مثل استخدام السيارة أو الإسفلت أو الإضاءة أو الأحذية وغير ذلك من وسائل العصر!!.

أما في الجانب الآخر التغريبي؛ فالأمر أقل حدة في التصنيف؛ إلا أن التوصيف أيضا له دلالاته الفكرية والعقدية فليسوا سواءً!! فهم جماعات أو تيارات غير مرئية دون برنامج أو (منفستو) مكتوب أو اجتهاد تنظيري تتواضع عليه الأفهام؛ بل هي تهويمات تحديثية، أو هي على الأصح رغبات وأمنيات بعضها نقي وجميل لكنه مندفع؛ وبعضها الآخر نتيجة وثمرة لاحتقان، وانتقام من (حالة) وثورة على (وضع) أو ثأر من اضطهاد أو شعور بذلك سواء كان ذلك الاضطهاد حقاً أم متوهماً؛ فالتغريبيون فيهم المتطرف كالإسلاميين الذي يصل إلى الانتماء إلى تيار إلحادي، وفيهم المعتدل كالإسلاميين أيضاً الذي يتوسط في اتجاهه التحديثي فلا ينبت عن أصوله العقدية ولكنه يستدعي كثيراً من مظاهر ورؤى الحداثة الغربية؛ وفيهم العلماني المدني يفصل بين ما لله وما للدنيا - حسب اعتقاده - فلا صلة للدين - عندهم - بالحياة، وفيهم الليبرالي الذي يؤمن - عند المعتدلين - بحرية الرأي واحترام التعدد، وشعارهم (حرية - عدل - مساواة) بيد أن فيهم المتطرف أيضاً الذي يرى أن الدين عقبة في طريق التطور والنهوض - حسب زعم هذا الفريق المتطرف الليبرالي- !.

ولأن ساحتنا الفكرية حديثة عهد بانفتاح؛ ولأن بيئتنا لم تتعود بعد على الحوار، ولأن احترام الرؤية الأخرى المخالفة لم يترسخ، ولسيادة وهيمنة التفسير الواحد نرى هذا التأزم الفكري والمشادة والاتهام والتصيد وانتظار فرصة الانقضاض على الخصم؛ فمن طرف قصي يتوعد التكفيري من يخالفه بالويل والثبور، ويحكم على السلطة بالكفر وعلى الناس بالردة (انظر: الكواشف الجلية، و: ملة إبراهيم - لأبي محمد المقدسي) والحرب على الناس ومظاهر الحياة الحديثة، ومن طرف آخر معاد وقصي أيضاً نرى الليبرالي الذي يمكن أن نصف ليبراليته بالمشوهة أو الناقصة أو الغضة أو التي حصرمت قبل أن تزبزب!! يصف لا المتشددين فحسب؛ بل كافة من كان (محافظاً) أو إسلامياً أو ميالاً إلى (الهوية) بأنه: رجعي، متخلف، ماضوي، دموي، كهفي، و.. و..!!.

إن الحالة الانتبالية من (النَبل) لا من النُبل التي تقسم أطياف الفكر لدينا حرية بهزة عنيفة تصحح هذه الأوضاع، وتكشف الفضاءات المظلمة التي يسعى فيها ركضاً المتربصون لاقتناص واستقطاب أتباع جدد للفكر الظلامي الذي يزداد انشحاناً وتوتراً وهيجاناً بنبال الجانب المتطرف الآخر الليبرالي والتغريبي!!.

مررنا بما فيه الكفاية من تجربة الصراع الفكري، وهو هنا لا يدل على صحة عقلية قدر ما يدل على فوضى أو ضياع، أو حالة من فقدان رعاية المؤسسة الثقافية أو الإعلامية الذكية التي يحسن أن تنشغل بما هو جاد وعميق ومؤثر، وتدع عنها الانشغالات الرخيصة، والاحتفاليات المظهرية الكاذبة التي لا تضيف ولا تغني؛ بل يسمع لها صوت وضجيج دون طحين أو حتى قشور الطحين!

وغياب هذه المؤسسة الثقافية الكبيرة عن الفعل والتأثير الإعلامي والثقافي يدع الساحة مفتوحة وجاهزة لنزول اللاعبين المتربصين الباحثين عن جماهير وأتباع، وبكل الوسائل من الطرفين المتطرفين الظلامي والتنويري!.

ولئن واجهت الدعوة الإصلاحية السلفية فيما مضى من الحروب والمكايد والافتراءات والنقد البريء منه والمدخول وتفوقت على الحالات تلك؛ فإن الحرب الشرسة في جوانبها الفكرية والإعلامية على هذه الدولة المباركة لم تعد تكتفي بنقض الأصول والقواعد والمنطلقات التي بني عليها هذا المجتمع وتطور وتصاعد في نموه وتطوره على مدى ثلاثة قرون؛ بل تستهدف إرباك وخلخلة منظومة القيم الأخلاقية والاجتماعية، وهدم مشروعية المنهج، وتفكيك الصلة والتواصل والولاء بين القمة السياسية وأطياف المجتمع؛ ليكون هذا المجتمع - حسب طموحاتهم الخائبة- مجتمع التعدد ومجتمع الحرية ومجتمع الحداثة وفق المفهوم التنويري الليبرالي، أو مجتمع الهجرة، والإمارة الإسلامية، ودولة الخلافة، حسب المفهوم التكفيري المتطرف!!.

ويصح بعد هذا العرض المطول أن نتساءل عن سبب هذه الفوضى الفكرية؟

ومن يمكن أن يُسأل عن مسؤولية مواجهتها بحكمة ووعي ووطنية وعمق؟!

أليست هذه المؤسسة الثقافية الغائبة التي لا تكاد تعلم ما يجري، أو أنها ربما تعلم عن بعض ما يجري؛ لكنها تبدو وكأن الأمر لا يعنيها! وهي على هذا التصور من وعي دورها التنويري والتأسيس في مجتمعنا كالنعامة التي تخفي رأسها في الرمل عند العواصف!.

إن الصد والإعراض وعدم الشكوى أو الصبر على الألم لا يعني أبداً غياب الداء.

أقول هذا بعد بيان 85 الأخير، ولئلا نستمر سنة بعد أخرى في عد البيانات ومن يملأ خانات هذه البيانات من عقول مغيبة!

* عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام
كلية اللغة العربية - كاتب وباحث


للتواصل Ksa_7007@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد