ها هو العراق بعد سنوات الذبح والقتل والدم التي واكبت سنوات الاحتلال في العراق يتجه بخطوات واثقة نحو دولة المجتمع المدني، والقوات المحتلة توشك على الرحيل. الانتخابات المحلية التي جرت في العراق مؤخراً أكدت أن (العراق) هو المنتصر، وأن البعد (الطائفي) الذي كان مسيطراً بعد سقوط صدام كان (مرضا) عارضا، لم يلبث إلا أن تراجع لتتقدم على حسابه الائتلافات الوطنية.
نوري المالكي رئيس الوزراء الحالي الذي كان يرأس حزب الدعوة الشيعي كون ائتلافا وطنيا من عدة كتل وطوائف على أسس وطنية تحت مسمى (ائتلاف دولة القانون)،وكان برنامج الائتلاف في الانتخابات (يدعو الى تحسين الأوضاع الأمنية، والترويج للوحدة الوطنية بين الناخبين الذين أنهكتهم سنوات من أعمال العنف الطائفية والإخفاق في توفير الخدمات في ظل الزعماء الذين غلب عليهم رجال الدين، وتولوا المسؤولية منذ عام 2005) كما جاء في تقرير لوكالة رويتر من البصرة في العراق. هذا الائتلاف اكتسح الانتخابات، واحتل المرتبة الأولى كما تقول النتائج الأولية.
وفي المقابل تراجع (المجلس الأعلى الإسلامي) ذو الطابع الشيعي الطائفي، تراجعاً ملحوظاً قياساً بنتائج الانتخابات السابقة؛ وهذا يشير بوضوح إلى أن الطائفية لم تعد القوة المسيطرة على الأوضاع السياسية بالعراق. البعد الطائفي يقوي ويزدهر في أوقات الأزمات. وعندما تتجه المجتمعات إلى الهدوء فإنها ستفكر في حياتها، وتختار من يقدم حلولا للحياة وليس للموت، كالخدمات والأمن والتنمية، وهذه ليست من أولويات زعماء الطوائف ولا تدخل في اهتمامهم قدر اهتمامهم بالموت. وعلى ذلك يعلق توبي دودج خبير الشؤون العراقية بجامعة لندن ان فوز المالكي (ليس رد فعل عنيف ضد الدين، بل هو رد فعل عنيف ضد الوعود التي قطعت على أساس الهوية الطائفية).
لقد تعلم الإنسان العراقي بعد انتخابات 2005 ان الذي يرفع شعار الطائفة أولا، لا يمكن أن يُقدم له حلولاً تنموية، قدر ما يقدم شعارات ومقولات معلبة تعرف كيف تقيم المآتم، وتسير المظاهرات، وتؤلف الشعارات، لكنها لا تعرف أن تقيم الاستقرار؛ تثري العواطف، وتعرف كيف تؤججها، لكنها لا تقيم أمناً، ولا تقدم مشروعاً تنموياً.
ما حصل في العراق سيحصل في غزة بكل تأكيد. ملالي غزة الذين يحكمونها الآن بالحديد والنار باسم الدين، هم من ورّث هذا الدمار الرهيب الذي لم ينج منه أحد هناك. الحماسيون يرفضون العودة إلى صناديق الانتخابات لأنهم يعرفون أن الناخبين الذين جاؤوا بهم في الأمس، سيقصونهم من السلطة اليوم، تماماً كما حصل في العراق. تلك العجوز الفلسطينية التي ظهرت على إحدى القنوات الفضائية، وقالت: (خلاص؛ ما بدي عيش في غزة، بدي عيش في الضفة) كانت تختصر الوضع المأساوي الذي وصل إليه أهل غزة، بسبب ارتباط ملالي حماس بالموت، واتجارهم بما يسمونه الاستشهاد. لو عاد الهدوء، وأعيدت الانتخابات، ستخسر حماس بكل تأكيد، فقد ذاق أهل غزة بعد أن اختاروا حماس الأمرين؛ هذا ما أكده لي أكثر من محلل على اطلاع بالأوضاع في غزة من الداخل؛ لذلك فالتصعيد مع إسرائيل يبقيهم، والتهدئة، والعودة إلى صناديق الاقتراع تخرجهم من السلطة، غير أنهم لا يستطيعون الاستمرار في التصعيد إلى الأبد.
فشل(الإسلامويون) الشيعة في العراق، وفشل جناحهم السني في فلسطين، يؤكد أننا على مشارف مرحلة جديدة تختلف عن الثلاثين سنة الماضية التي اكتنفت توجهاتها تلك المرحلة. إلى اللقاء.