تحلو لي رحلة تأمل فيما يكتبه ناشئة الأدب، أو جيل الشباب فيهم، فأجدهم ينقسمون لفئتين، فئة لا تزال تجتر الأحلام، وتهيم مع الأخيلة، وتطوف في بحور العاطفة وما تبعثه من آلام الجوى، وعذابات الفقد والهجر، وتكهنات ما وراء تقلبات الشعور وفجاءات المواقف, وفئة تتجه للتعبير عن حصاد ما تلقته من معلومة أو وقفت عليه من تجربة فكرية أو أدبية لمن أعجبت به من شاعر فارط في التحديث، أو موغل في التغريب، أو روائي يطوف فضاءات الإنسان، ويكشف عنه رداؤه ليقفز لذاكرة المتلقي، عن جرأة يحسبها له إقداما، أو قدرة يوظفها في ملكاته وأدواته فيمنحه أوسمة ما حظي بها السابقون ولا أحسب أن سيفعل اللاحقون.., وتجدهم بفئتيهم قريبون من الواقع متلمسين للحقائق، أو نائين عنهما.., ربما عندما أعزو الأسباب فلا أجدها إلا تدفق المنشور، وكثافة المقول، وتزاحم الأصوات، وتكتل الجماعات، لكن الحصاد يتعثر في أبنيته اللغوية وفي أشكال تعابيره الأسلوبية، وفي قدرته على التأثير بالأفكار المقاربة من معطيات الواقع الكثيفة والعديدة بألوانها التي ما وجد الكم الكبير هذا منها في بدايات عصور الإبداع البشري ووجدناهم قوما يعطون ويبدعون ويجددون ويبنون ويشكلون في كل مجال فكري وأدبي ولغوي وتأريخي، ويتركون تراثا للإنسانية حتى الآن لا أحسب أن ما قدمه إنسان العصر الحديث قادر على مجاراته قوة وتمكنا وبعدا وتأثيرا بل تأسيسا..
تراودني عند هذه الرحلة أن أرسم هذه الأحلام العريضة التي تملأ مخيلتي ويلتف حولها تأملي أن يستطيع جيل الناشئة من الأدباء، من الفئتين أن يجد في التراث قاعدة استناد وتأسيس, وفيما تلاه موارد اكتساب وإضافة, ليمكن له أن يكوِّن توجهه لشحذ قدراته نحو اتجاهات مهما تعددت يصبح لها خصوصيتها وتتكون لها بصمتها وتتميز بتأثيرها، لا تضعف ولا توهن في ركائزها، وتظهر دائرة قزحية ذات سمات يتفرد بها أصحابها.. تلك خلاصة الرحلة.