Al Jazirah NewsPaper Thursday  12/02/2009 G Issue 13286
الخميس 17 صفر 1430   العدد  13286
رينيه شار صانع الرؤى الهاربة!
سلوى أبو مدين

 

(مدفأتي لا تكف عن تمني الخير لمنازلكم). رينيه شار سيد الفرح المستحيل وصانع الرؤى المستحيلة كما قالت عنه الكاتبة آسيا..ولد رينيه شار في الرابع عشر من حزيران من سنة سبعة وتسعمائة وألف بمدينة (ليل سور لا سورغ) جنوب فرنسا.

ابتداء من سنة خمس وأربعين وتسعمائة وألف نذر رينيه شار حياته لمؤلفه الشعري وتفرغ له فكان أن أخلص له الشعر بأن جعله من أجمل الأصوات الشعرية عالميا. تميز رينيه شار بأسلوبه المتفرد الذي لم يضاهه فيه أي أحد وقد كان صديقا لأهم وأشهر المعاصرين له من الفنانين مثل بيكاسو وبراك وجياكوميتي وميرو.

أشعار رينيه شار تؤسس نفسها بمفاهيم كبيرة أهمها التوحد والتركيز والتقشف والإيثار والمقاومة الحقيقية التي تنحو نحو كثافة فلسفية عميقة. كان رينيه كريماً لدرجة الجنون يوزع ما في جيبه من أوراق مالية على الفقراء ويتمنى لو يملك مال الأرض كله لوزعه على من يستحقه.

وفي إحدى المرات قرر أن يبيع لوحاته أو أشعاره التي رسم لوحاتها لكبار فناني القرن من أمثال بيكاسو، وسلفادور دالي، وبراك وغيرهم..

أمسكي بيدي الأمنيتين تسلقي

السلم الأسود، يا متفانية نشوة الحبوب

تدخن، المدن حديد ودردشة

بعيدة.

أيها الجمال، أمض على لقائك في وحدة الصقيع

مصباحك وردي، الريح تلمع. عتبة المساء

تتجوف.

تستريح الريح

عند سفح تلّ القرية، تعسكر حقولٌ مُمَّونة بالميموزا. بعيداً عنها، في أيّام القطاف، يحدث أن يكون لنا لقاءٌ طَيّبٌ بفتاةٍ ذراعاها مشغولتان طوالَ النّهار بالأغصان الهشّة. أشبهُ بمصباحٍ إكليلُه عطرٌ، ستذهب، دائرةً ظهرَها إلى شمس المغيب.

لقد ساعدت المرحلة السريالية شار على تفتح عبقريته الشعرية ومساعدته على إحداث قطيعة كاملة مع الشعر التقليدي. كما أن موهبته الشعرية كانت اكبر بكثير من موهبة بريتون ولذلك انفصل عنهم وذهب

لكي يغرد خارج السرب، ثم عاد لمدينته الصغيرة وأدار ظهره لباريس وأضوائها الخلابة. وقرر أن يعيش مخلصاً لقضية الشعر.

وكان يقول: الشاعر لا ينبغي أن يشرك بالشعر شيئاً: لا زواج ولا عائلة ولا أولاد ولا أي شيء آخر ينبغي أن يعيش للشعر وللشعر فقط. كان يعتبر الشعر قضية حياة أو موت، ولا مجال للعب فيها. الشعر قضية خطيرة جداً بل أنه أخطر شيء في الكون.لذا كان يحتقر الشعراء الذين يكتبون بمناسبة وبغير مناسبة أو يوظفون الشعر لأغراض سياسية. كأرغوان مثلاً.

كان شار يقول: الشاعر الحقيقي يموت شاباً على غرار رامبو.

أقف على عتبة بابه مأخوذة بهذه السريالية انغمس بهوس عذب في شعريته الثرية التي تهز الروح وترتحل بها إلى أقاصي الفضاءات المترعة بجمال بكر لا يعطي غالبا أسراره بسهولة.

هنا أريد أن أصر على علاقة الإبداع والفن الحقيقي الوطيدة بذلك الجنون الجميل الذي يبحث بين ومضاته الحارقة عن كثير من الرؤى الآبقة المتعصية التي لا يمكن توصيفها بالهذيانات ولا بسليلات عقل ينحو نحو فكر مترفهة تعطي نفسها بسهولة مهما كان عمقها.

عتبة

عندما انهدَّ سدُّ الإنسان، مُمتَصاً بصدع جبّار سببه هجران الإلهي، فإن الكلمات في البعيد وهي كانت لا تريد أن تضيع، حاولت الصمود ضد الدفع الباهظ. وهاهنا حُدِّدت سلالة معناها.

ركضتُ حتى نهاية هذه الليلة الطوفانية. واقفاً في الفجر المرتجف، طوقي مملوء بالفصول، أنا في انتظاركم، أيها الأصدقاء القادمون. أستشفّكم منذ الآن من وراء سواد الأفق. موقدي لا يكفّ عن التمني بالخير لمنازلكم. وعصاي، من خشب السرو، تضحك من كل قلبها من أجلكم.

توفي رينيه شار على إثر أزمة قلبية في التاسع عشر من شباط من سنة ثماني وثمانين وتسعمائة وألف ب(ليل سور لا سورغ) لكن أسطورته لم تنطفئ لأن صوته الصادح ظل يفيء إليه الباحثون عن وجوههم في عتمة ليل بهيم لا سبيل إلى تفاديه بغير ذاك الإبحار الجميل في الذات الإنسانية وفي الرؤى المارقة. ظهر في أيار من نفس السنة ديوانه (في مديح مشتبه بها).






 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد