Al Jazirah NewsPaper Thursday  12/02/2009 G Issue 13286
الخميس 17 صفر 1430   العدد  13286

إنَّما هو التَّأليف وليس الإنشاء
عبدالعزيز بن صالح العسكر

 

التأليف هو الجمع؛ ذلك ما تقوله معاجم اللغة العربية، فالكتاب المؤلَّف هو موضوعات مجموعة في فن معين أو موضوع معيَّن.. وليس من الضروري أن يكون كله من إنشاء الجامع لموضوعاته؛ فعلماء اللغة والفقه والتأريخ والجغرافيا وعلوم كثيرة أخرى ليس كل ما في كتبهم من إنشائهم ابتداءً وإنما هو جمع ونقل ومقارنة وترجيح وأساليب أخرى يكون من نتيجتها إخراج كتاب جديد في أسلوبه وعرضه وترتيبه يختلف عما قبله.

هذا ما عرفناه في دراستنا الجامعية وما بعدها وخلال تعاملنا مع آلاف الكتب وفي شتى الفنون.

ولكن المفاجأة التي وقفت عندها كثيراً هي ما سمعته من أحد أرباب القلم، وهو رجل أمضى ما يقرب من نصف قرن بين الكتب والصحف؛ فهو قارئ متميز كما أنه كاتب متميز، علاوة على عمله الوظيفي الذي لا يقل عن نصف قرن أيضاً.. تلك المفاجأة هي حُكْمُه على كتاب رأى (مسودته) قبل أن يطبع.. وبدل أن يبين رأيه فيه مفصلاً ويقرأه قراءة متأنية قال: (هذا كتاب لا يستحق أن يقرأ.. فهو نُقُولٌ.. والناس قد قرأوا ما كتبه صاحبه من تلك النقول) وسبب هذا الحكم العاجل هو أن صاحبنا وقع نظره على أبيات شعرية في أحد الموضوعات جاءت شاهداً على قضية عرض لها الكاتب.. وربما وقع نظره أيضاً على شاهد من النثر في موضوع آخر.. وكانت وصيته -بارك الله في عمره- (يجب أن يكون الكتاب من إنشاء صاحبه)! ولقد عجبت من ذلك أشد العجب؛ ذلك أن هذا الحكم لم يأت من شاب صغير السن أو قليل العلم، وإنما جاء من رجل قرأ وكتب وسمع ولديه مكتبة تحوي عدداً من العلوم والمعارف!! ولا أدري كيف استنتج حكمه هذا وهل جميع الكتب التي قرأها وأهديت له واشتراها هي من الصنف الذي يريد: بمعنى أن محتواها كله من إنشاء (مؤلفيها)؟!. وذلك أمر بعيد كل البعد. ولا يمكن لنا أن نُسلم بأن ما يستحق القراءة هو ما كان في مجموعه من إنتاج عقل كاتبه وفكره وأسلوبه ولا يجوز له أن يقتبس أو يستشهد بأقوال غيره أو آرائهم، وسأذكر هنا كتباً قيمة لعدد من أعلام العرب في التأريخ واللغة العربية والعلوم الشرعية والآداب.. وتلك الكتب تُعد من أهم المراجع في مجالها، وهي من أمهات كتب التراث بإجماع المختصين وهذه الكتب كل ما فيها (نقول) وأقوال وأخبار عن السابقين والمعاصرين لمؤلفيها. ومن تلك الكتب:

1- بهجة المجالس وأنس المجالس، للإمام يوسف بن عبدالله بن عبدالبر المتوفى سنة 463هـ في ثلاثة مجلدات.

2- زهر الآداب وثمر الألباب، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني المتوفى عام 453هـ في ثلاثة مجلدات.

3- جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، للإمام ابن عبدالبر القرطبي. وهو كتاب فريد في بابه، نفيس في جمعه وتبويبه.

4- ومن مراجع الأدب المشهورة كتاب الحماسة لأبي تمام الطائي الذي يقول عنه ابن خلكان (وله كتاب الحماسة التي دلت على غزارة فضله واتقان معرفته بحسن اختياره) وفيات الأعيان ج2ص12.

وإذا أردت مثالاً من تأليف المعاصرين من العلماء فإليك المثال:

1- كتاب: معجم المناهي اللفظية. للشيخ بكر بن عبدالله أبوزيد، وفي طبعته الثالثة 1417هـ نحو 1500 لفظ. والشيخ أجزل الله له المثوبة ينقل ما قاله العلماء قديماً وحديثاً في تلك الألفاظ ومع ذلك يعد كتابه من أنفس الكتب وأوثقها في ميدانه الذين ألف فيه. وجاءت طبعته المذكورة في 780 صفحة. ومن أمثلة ما ذكره -رحمه الله- (لفظ: تجب الثقة بالنفس: قال الشيخ بكر: في تقرير للشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى لما سئل عن قول من قال: تجب الثقة بالنفس، أجاب: ( لا تجب، ولا تجوز الثقة بالنفس. في الحديث: (ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين). قال الشيخ ابن قاسم معلقاً عليه: (وجاء في حديث رواه أحمد: (وأشهد أنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضيعة وعورة وذنب وخطيئة، وإني لا أثق إلا برحمتك)ا..هـ. وفي لفظ (ثالث الحرمين) قال الشيخ بكر: (قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى-: (وأما المسجد الأقصى: فهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال.. إلى أن قال: والأقصى: اسم للمسجد كله، ولا يُسمى هو ولا غيره حرماً، وإنما الحرم بمكة والمدينة خاصة، وفي وادي وج الذي بالطائف نزاع بين العلماء)ا..هـ.

2- كتاب: صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل للشيخ عبدالفتاح أبو غدة. وهو قصص وأخبار.. ونقولات من كتب التأريخ. وجاءت طبعته الثالثة عام 1413هـ في أكثر من خمسمائة صفحة. وقد أورد الشيخ عبدالفتاح -رحمه الله- درراً من القصص والأخبار جدير بنا أن نعيها ونفيد منها ومما أورده في ذلك قول أبي عبدالله الفقيه المراغي:

إذا رأيت شباب الحي قد نشأوا

لا ينقلون فلال الحبر والورقا

ولا تراهم لدى الأشياخ في حلق

يعون من صالح الأخبار ما اتسقا

فذرهم عنك، واعلم أنهم همجٌ

قد بدلوا بعلو الهمة الحمقا

وأورد الشيخ عبدالفتاح كذلك قول أحمد بن عمر الزبيدي المتوفى عام 930هـ:

قلت للفقر: أين أنت مقيم؟

قال لي: في عمائم الفقهاء

إنّ بيني وبينهم لإخاء

وعزيز علي قطع الإخاء!

وقول الآخر:

إن الفقيه هو الفقير وإنما

راء الفقير تجمعت أطرافها

ومما أورده مؤلف الكتاب كذلك قول ابن فارس اللغوي:

إذا كان يؤذيك حر المصيف

ويبس الخريف وبرد الشتا

ويلهيك حسن زمان الربيع

فأخذك للعلم قل لي متى؟!

ومما ختم به الشيخ كتابه قول ابن دقيق العيد المتوفى سنة 702هـ:

ولله قومٌ كلما جئت زائراً

وجدت نفوسا كلها ملئت حلما

إذا اجتمعوا جاؤوا بكل طريفة

ويزداد بعض القوم من بعضهم علما

تساقوا كؤوس العلم في روضة التقى

فكلهم من ذلك الري لا يظما

نفوس على لفظ الجدال قد انطوت

فنبصرها حرباً ونعقلها سلما

وما ذاك من جهل بهم غير أنهم

لهم أسهم شتى تنكت المرمى

أولئك مثل الطيب كلّ له شذى

ومجموعه أذكى أريجاً إذا شُما

وبعد: فإن السؤال الذي يحتاج إلى إجابة منصفة من شيخي الفاضل: هل الكتب الستة التي ذكرتها وأمثالها -وهي مليئة بالنقول- مما لا يستحق أن يقرأ كما كان حكمكم على مثيل لها وقلتم إن (النقول) قد قرأها الناس.. وإذا كان الشعر والنثر قد سمع لدى نفر قليل في الزمان والمكان الذي قيل فيه فهل يترك وتنتفي الفائدة منه بحجة أنه سمع من قبل؟ وهل المطلوب من كل مؤلف أو كاتب أن يكون كل ما في كتابه من إنشائه فقط؟! وماذا سيكون عليه الحال لو كانت الكتابة كذلك.. أما حكمك - حفظك الله- على من كان كتابه مما لا يعجبك فهو رأيٌ شخصي!! لا أجد فائدة من مناقشته لأن النيات مما لا يعلمه إلا الخالق سبحانه وتعالى وهو الذي يجزي كل عامل بما عمل يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ولا يمكن لنا أن نحكم بجودة كل مؤلف جهد صاحبه فيه الجمع فقط؛ وإنما نرى أن الجمع و(التأليف) مهارة لا يملكها كل كاتب، ولا يمكن أن يبدع فيها كل قارئ، ولا تتأتى لمن أرادها لهدف حقير من شهرة أو مكسب مادي أو معنوي... ولكنها قدرة وملكة تؤتي للمخلصين ويتفوق فيها الجادون وهي تحتاج إلى تدريب طويل وممارسة متواصلة وتفرغ ذهني ووقتي ومع ذلك يبقى أصحابها بحاجة ماسة إلى من ينقدهم فيريهم مواطن الصواب ومواطن الخطأ فيما جمعوا وكتبوا ويأخذ بأيديهم إلى الأفضل والأجود لفظاً ومعنى وأسلوباً.

ولقد ضجت منابر الثقافة والعلم والأدب بالشكوى من كتب جوفاء ومؤلفات هزيلة ودواوين هي أشبه ما تكون بالطبل وظيفته الوحيدة أن يضرب لكي يرقص الراقصون تبعاً لما ينبعث منه من رنين.. وتلك الكتب والمؤلفات والدواوين تفتقر إلى أقل مقومات العمل العلمي أو الأدبي الرصين؛ فأسلوبها هابط أو ضعيف وكلماتها عامية أو غريبة ومعانيها ساذجة أو سخيفة... وعلى القارئ أن يميز بينها وبين غيرها من المؤلفات القيمة التي سمت أسلوباً وفكراً، وعلت هدفاً وغاية وكانت غالية في قيمتها المعنوية قبل أن تكون غالية في قيمتها المادية.. وميزان النقد المنصف كفيل بالتمييز بين الرديء وغيره.

وبعد: فما أجمل ما قاله الشاعر في إرشاد من يؤلف الشعر ويريد نشره. حيث قال:

لا تعرضن على الرواة قصيدة

ما لم تُبالغ قبل في تهذيبها

فإذا عرضت الشعر غير مهذب

عدوه منك وساوساً تهذي بها

أما معشر الكتاب والنقاد فأنقل لهم ما أورده ابن رشيق في كتابه (العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده) حيث قال: (حكي أن رجلاً قال لخلف الأحمر: ما أبالي إذا سمعت شعراً استحسنته ما قلت أنت وأصحابك فيه!! فقال له: إذا أخذت درهماً تستحسنه وقال لك الصيرفي إنه رديء هل ينفعك استحسانك إياه؟ ص117ج1.

ص.ب 190 الدلم 11992

Al-Delm190@maktoob.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد