أخيراً جاءت الفرصة التي طالما انتظرها (فهمي) لأعوام وأعوام..
و(فهمي) إن لم تكن تعرفه هو بائع البطاطا عند آخر الترام.. في تلك البقعة الواسعة من الأرض الواقعة بين المدرسة الثانوية وسور المستشفى العتيقة.. تلك الساحة الواسعة التي تنتهي عندها أيضاً خطوط للأتوبيس وموقف لسيارات الركوب.
ولا شك أن هذه التضاريس جعلت من المنطقة مكاناً مناسباً لبيع البطاطا المشوية التي يتصاعد منها الدخان عندما تجري فيها سكين عم (فهمي) لتقسمها نصفين بينما تكون يده الأخرى أسرع في لفها بصفحة من كتاب مدرسي امتلأت بإرشادات صحية للتلاميذ تدعوهم لعدم تناول الأطعمة من الباعة الجائلين..
ولكن هذا السبب وحده لا يفسر وجود عم فهمي في هذه المنطقة.. بل لعل الدافع الأقوى لذلك هو رغبته الدائمة أن يكون بجوار عربات الترام المتراصة عند آخر الخط..
كان الترام دائماً عشقه الأزلي.. منذ كان طفلاً صغيراً.. يهجر مدرسته ويخرج.. يتعلق بعربته الصفراء الخشبية ويطوف معها شوارع القاهرة الضيقة.. كانت دقات قلبه تتصاعد في كل مرة يسمع فيها رنين الجرس النحاسي والسائق ينذر المارة والسيارات بقدوم الترام.. كان يحس بسعادة لا نهائية حتى عندما كانت (السنجة) تسقط ويسرع الكمساري ليعيدها إلى مكانها.. كانت العربة ترتج ثم تبدأ في الحركة من جديد والسعادة تغمر جسد فهمي بنشوة عارمة.. ظل عشقه يتصاعد ويطغى على ما عداه حتى قرر أن يعمل سائقاً للترام.. ولولا تلك الجملة اللعينة التي ذكرها ذلك الطبيب بعد أن أجرى الكشف الطبي عليه (غير لائق طبياً للعمل).. يذكرها جيداً.. لقد كانت الصخرة التي تحطم عليها حلمه الجميل.. لن يكون سائقاً للترام.. حسناً.. فليكن بائعاً عند موقف الترام.. حيث يمكن أن يكون دائماً بجواره.. يرقبه ويحلم.. يتمنى أن يجيء ذلك اليوم الذي يستطيع فيه أن يقوده.. يسير به في الطرقات.. يدق الجرس.. يحلق في السماء يعلو فوق الضحكات الساخرة.. الضحكات التي كانت تصدر عن زوجته وعن رفاق المقهى.. حين كان يحكي لهم عن ذلك اليوم الذي سيقود فيه الترام.. كانوا لا يصدقون.. لا يصدقون أن عم فهمي ذلك الرجل العجوز يستطيع حقاً أن يقود الترام.. لا يدرون أنه يعرف كل صغيرة وكبيرة بداخله.. حتى بعد أن تغيرت ألوان الترام..
أصبح أخضر ثم أصبح أزرق.. لا يهم.. أنه يعرف كيف يبدأ الحركة.. كيف يلف الذراع النحاسي الصفراء ليزيد من سرعة الترام.. كيف يدق الجرس بقدمه.. كيف يجعل الشبكة تهبط عند التقاطعات.. كل شيء.. كانوا دائماً يضحكون منه. لا يصدقونه والآن.. تمنى عم فهمي أن يكونوا جميعاً موجودين حين حانت فرصة عمره.. كانت الشمس قد توسطت كبد السماء.. اختفت الظلال تحت الأقدام.. حين هبط سائق الترام من كابينته مسرعاً في اتجاه بائعة الشاي الجالسة في ظل الشجرة الوحيدة ليأتي بكوبين من الشاي الأسود له ولزميله الجالس في انتظاره بالعربة.. لم يكن السائق يرى تلك السيارة المسرعة التي جاءت عكس اتجاه الشارع.. حدث كل شيء في ثوانٍ معدودة.. السائق يسقط في عرض الطريق.. تجمع المارة.. من كل ناحية ومن كل بيت.. التفوا في لحظات.. علا صوتهم.. أسرع بعضهم بحمل السائق للمستشفى.. وذهب البعض يطارد السيارة الهاربة.. وقنع البعض بأن ضرب كفاً بآخر.. تحدثوا وزعوا الاتهامات بين الجميع ثم.. انصرفوا بأسرع مما اجتمعوا..
وفي لحظات عاد الهدوء للمنطقة.. نظر عم فهمي لكابينة الترام الخالية.. ثم نظر حوله.. لا أحد.. وبسرعة كان يقفز داخل الكابينة ويغلق الباب خلفه.. أدار القاطرة.. اهتزت بشدة.. ثم بدأت في الحركة منزلقة على القضبان الحديدية بينما أخذ عم فهمي يحرك الذراع الصفراء.. زادت سرعة التزام.. دق الجرس بقدمه وحين تصاعد الرنين النحاسي كانت النشوة التي يحسها عم فهمي قد وصلت به إلى ما يشبه الغيبوبة.. لم يعد يرى المنازل ولا المحال.. ولا وجوه الناس في ذلك الشارع الذي قضى عمره فيه. كل ذلك أصبح خلفية ضئيلة لصورة الطفل الصغير الذي تمنى أن يكون سائقاً للترام وهي تكبر وتنمو.. صار شاباً تملأ قلبه نزوات الشباب وطيشه.. دق الجرس من جديد صار رجلاً مرموقاً يحقق أمنيات الذات.. يملأ العيون والأسماع زاد السرعة.. أصبح في حجم التمثال الموجود في ميدان المحطة.. رأى آلاف العيون تملؤها نظرات الحسد والإعجاب والانبهار من حوله.. سمع بأذنيه أصواتاً مدوية تهتف باسمه..
هكذا تكون قيادة الترام.. قالها لنفسه وألقى نظرة سريعة من النافذة الزجاجية المواجهة له.. للمرة الأولى منذ أن تحرك الترام ينظر للطريق أمامه.. أفاق بسرعة حين رأى تلك الكتلة الحمراء القادمة نحوه بسرعة مجنونة كانت سيارة أتوبيس تسير في الاتجاه العكسي.. على قضبان الترام.. مسرعة كالشهاب.. حاول أن يوقف الترام..
سمع فرامل الأتوبيس تعوي.. ولكن بالرغم من ذلك حدث الاصطدام في لحظة.. وفي اللحظة التالية لم يعد يسمع أصواتاً بالمرة.. تحسس رأسه وجسده وذراعيه.. إنه حي.. لم يصب بخدش.. أسرع وفتح كابينة الترام.. هبط للطريق.. وفي نفس اللحظة.. من باب الأتوبيس الأمامي قفز رجل.. أصبحا في المواجهة تبادلا نظرات مرعوبة.. لم يتكلما.. فوجئ فهمي بسائق الأتوبيس وهو يولي الأدبار مسرعاً.. أخذ يجري في الشارع الجانبي الطويل.. بلا شعور اندفع عم فهمي يجري وراءه.. السائق ينظر خلفه وحين رأى عم فهمي يلاحقه زاد من سرعته.. أحس فهمي بذلك.. عمته الدهشة لماذا يجري ذلك المجنون.. وبكل ما تبقى في جسده من جهد زاد سرعته.. ضاقت المسافة بينهما.. اقتربا.. دفعته مشاعره المتضاربة ورغبته في أن يكشف السر لأن يقفز ويمسك بساقي السائق.. تداخلت أذرع وسيقان. اختلط العرق بالتراب.. تدافعا.. تمكن عم فهمي من السائق.. ألقاه على ظهره.. جلس فوق صدره الذي كان يتمدد لأقصاه ثم يعود للتقلص سريعاً.. لهث فهمي وهو يقول له: لماذا تجري؟!.
التقط السائق أنفاسه بسرعة وهو يقول: معلش والنبي يا عم. كان نفسي مرة أسوق الأتوبيس.
نظر عم فهمي إلى الرجل الراقد على ظهره.. انتابته نوبة هيسترية من الضحك.. تركه ونهض..
قام الرجل.. وهو لا يصدق أخذ يعدو من جديد.. ينظر إلى عم فهمي.. لا يفهم شيئاً مما يدور..
أما عم فهمي فقد جلس على الأرض وأصوات الضحكات تدوي تملأ الفضاء من حوله.