للخطاب الدعوي كأداة اتصال معرفي وعنصر تواصل حضاري مركزية قصوى وخصوصاً في هذا المنعطف التاريخي الذي تمر به الأمة وفي ظل الظروف الحضارية السائدة اليوم. طبيعة اللحظة الحضارية الآنية تفرض استئناف النظر في الخطاب الديني للتحوير في قوالبه,
والتجديد في آلياته وتلمس كنوز الإسلام المعرفية لإبرازها كرّة أخرى بمستوى عال من التسامح وبقالب أكثر معاصرة، الظرف الآني يستلزم النهوض بالخطاب الديني والاستفادة من العلوم المعاصرة التي تخصصت في دراسة اتجاه الجماهير - بحسبها المستهدفة به - وفن مخاطبة الرأي العام ووعي البواعث المؤثرة في صياغته، ولو دققنا النظر لألفينا أن ثمة أسلوبين يتوسلهما الخطاب الديني إبان مزاولته لعملية التثقيف العام, ومباشرته لعملية التبشير الديني والدعوة إلى الصراط الحق، فثمة أسلوب ترغيبي يركز على إنشاء صورة ذهنية عن الله مفادها أن الله رحمن رحيم عفو حليم يغفر الذنب ويقبل التوب وتكاد تتوارى - إن لم تكن قد توارت - عن لغة الخطاب صورة الإله العزيز الجبار شديد العقاب، وفي المقابل ثمة أسلوب آخر معاكس لذلك يعتمده جملة من المشتغلين على الفعل الوعظي, يتمثل في ذلك الشكل الترهيبي المتلبس بحالة اكتئابية حيث تستولي عليه فكرة الحديث عن هول العذاب ويسيطر عليه الخطاب المروّع عن سوء المنقلب والمقت واللعنة التي تنتظر مقترفي المحظور الديني, وبيان التفاصيل المرعبة لعذاب القبر على نحو تقشعر له الجلود ويشيب من هوله الوليد, الشأن الذي قد يترتب عليه وجود سيكولوجيات تنفر من هذا الدين وقد تناصبه الشنآن بفعل ما يحدثه لها ذكره من ذعر، والاستفهام الذي يطرح ذاته هنا: ما هو الأسلوب الأنسب للتربية والأكثر ملاءمة لاستجاشة الهمم, وصياغة إرادات لا يُخضعها ضغط الشهوة ولا يوهنها هتاف اللذة؟ وقبل مباشرة الإجابة يحسن التذكير بأنه لا يليق بأي حال من الأحوال أن يتحدث الخطاب الديني بضبابية ومداورة تضاعف الحيرة أكثر مما تبددها، إنه لا يسوغ له أن يمارس خداعاً تضليلياً يخفي حقيقة صفات الله أو يتجاهل الحديث عن عذاب الله وشديد انتقامه أو في المقابل يغفل التطرق إلى صفة الرحمة ويتجافى في تنظيره عن صفة المحبة, ولو أنعمنا التدقيق في الخطاب القرآني بحسبه هو الأولى باقتفاء أثره في آلية الدعوة إلى الله وتلمسنا الوقوف عن كثب على الآلية التي يسلكها لتقرير الحقيقة الإلهية لألفيناه يعتمد السبيل الأقوم والأكثر تناغماً مع التركيبة الإنسانية، وتأمل معي عزيزي القارئ في تلك الآية الكريمة {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ}، وستجد أن الحق جل وعزّ نعت ذاته بصفتي المغفرة والرحمة ونسبهما إليه لا إلى فعله بعكس كلمة (الأليم) فوردت في الآية صفة للفعل وهو العذاب ولم يقل سبحانه: وإني أنا المعذب المؤلم.
ثانياً: نلاحظ في سياق الآية أن صورة الرحمة وردت قبل صفة العذاب وقد ورد في الدعاء المأثور (يا من سبقت رحمته غضبه).
ثالثاً: تأمل كلمة (عبادي) حيث نسب الجميع إليه مطيعهم وعاصيهم, برهم وفاجرهم, وثمة نكتة لطيفة هنا فحواها ذلك المعنى الإيحائي المحبب المتمثل في أنهم مهما عملوا, بل ومهما بالغوا في التجديف السلوكي المتمرد, ومهما أوغلوا في اجتراح التابو الشرعي ومهما كان تنكبهم عن خط الاستقامة الموضوعي, إلا أنهم هم عباده وهو معبودهم, فسمة العبودية ملازمة لهم لا تنفك عنهم بحال، سبحانك ما أعظم حلمك يا رب!! هذه الآية مفعمة بالدلالة والإشارة إلى رحمة الله الواسعة، ولو دلفنا في مقارنة إحصائية بين صفة الرحمة أو المغفرة وما يقابلها من الصفات لألفينا أن صفة الرحمة تكررت في البيان القرآني 239 مرة وصفة الغفور وردت 94 مرة بينما في مقابل ذلك نجد أن صفة (شديد العقاب) وردت 13 مرة وصفة (ذو انتقام) وردت 3 مرات، بل إن كل سورة قرآنية ما عدا (البراءة) مبدوءة باسمه المقرون بالرحمانية والرحيمية.
إن البعد الإيحائي لهذا هو أن الحق جل في علاه يريد أن يقدم لنا ذاته العلية بوصفه رحماناً رحيماً أكثر مما يريد أن يقدم ذاته بصفته معذباً شديد العقاب، إن هذا يحثنا على أن نقدم ربنا في خطابنا التبليغي بصفة الرحمة لتأصيل محبته في الضمائر وربط القلوب به، لكن لا يعني ذلك التجافي الكلي عن الإشارة إلى العذاب الإلهي الرهيب الذي توعد به من يركن إلى سواه؛ لأن في ذلك لوناً من التدليس التظليلي والممارسة التجهيلية والتي تستبطن في حقيقتها ضرباً من التحفيز على اجتراح المحاذير ولوناً من الحث الخفي على مباشرة الموبق السلوكي إضافة إلى أن هذا شأن مناف لمقتضيات الرحمة بالناس ومحبتهم فإن الرحمة والمحبة تستلزم ضرورة توجيه عناية الوعي الكلي ولفت انتباهه إلى ما قد يواجهه من مخاطر في نهاية الطريق ليكون على درجة عالية من اليقظة الشعورية ومراقبة الذات فلا يهن أمام نزواتها, ولا يتهاوى أمام النداء البهيمي الملح في تركيبتها, ولا يسلك جادّة الطغيان. إن التوازن بين الترغيب والترهيب مطلب جوهري ومراعاة أحوال المخاطبين أمر على قدر من الأهمية ولكل حالة لبوسها مع ضرورة تقديم أسلوب الترغيب على الترهيب؛ لأن المبالغة في الترهيب تبعث على الفزع والقلق ومعلوم أن الفزع الدائم من المجهول والقلق الدائم من القادم من الأيام وتوقع الدمار في كل آن قد يشل الطاقة البشرية وينخر في معنوياتها وقد يفضي إلى اليأس والقنوط وفقدان الأمل بالعيش الرغيد في المستقبل الأخروي وذلك ما يتنافى والبيان النبوي الكريم: (بشروا ولا تنفروا) في دعوة صريحة إلى السماحة والسهولة والبشاشة واللين, وإلى التجافي عن فقه تضئيل الخيارات, وتضييق الرحب, وتحسير الواسع, والنزوع إلى انتخاب أفضل الآليات الإرشادية وأقربها إلى القلب.
إن الإفراط في استخدام الطرح التخويفي يربك الوعي ويرسم صورة مشوهة للخالق في ذهن المخلوق ويترك انطباعات غير سوية. إن من الملاحظ أن كثيراً من الأسر يعتمدون في تربيتهم لأطفالهم على المبالغة في تخويف الطفل من الله وزرع قلبه البريء بالرعب منه وأنه إذا ارتكب المحذور الفلاني فسوف يكون وقوداً لنار تلظى وعرضة للأقراص النارية الملتهبة النازلة من السماء, ويخوفونه بالأشباح والعفاريت حتى يقيدوا حركته, ولا ريب أن هذا النوع من التربية سيولد في ذهن الطفل ردة فعل عكسية تجاه خالقه الذي لا يُذكر إلا في سياق التخويف. أيضاً على الطرف المقابل فإن إغفال هذا اللون من الخطاب الترهيبي بالكلية يفضي إلى تشكل حالة من قلة المبالاة ويسري في النسيج الاجتماعي نمط من الاستخفاف والاستهانة والاستهتار واتباع عفو الخاطر واستسهال ملابسة كل محذور على نحو تترهل فيه حساسية الذات العامة ولا تعود تحفل بالمحظور بل تقترف كل ما يعنّ لها من غير اكتراث باملاءات النظام التشريعي!.
Abdalla-2015@hotmail.com