العلماء هم ورثة الأنبياء حماة الملة وحرس العقيدة, شرّفهم الله وأكرمهم بعلمه وحكمته لحفظ دينه وصيانة وحيه وتبيان الحق والهدى للناس كافة لا سيما إذا تزخرفت للناس الشهوات وروج المفسدون عجائب الشبهات.
ما وقرهم من حاكم أو ذي سلطان في الأرض إلا رفعه الله وثبت ملكه وأدام عزه ولا رام ذلهم من أحد مهما علا شأنه إلا أذله الله...
...وفضح سريرته ونزع من قلوب الناس هيبته وأهان سلطته وأضعف قوته وسلط عليه من يذله ويهينه وجعله عبرة لمن يعتبر, وهم أرحم الناس بالناس وأنفع الناس للناس فالخير فيهم غالب ولو بدا من بعضهم خلاف ذلك فالحكم للغالب الكثير دون القليل النادر والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث والمعصوم من عصمه الله من الفتنة ولقد استفاض بالعلم والواقع أن من أجلّ العلماء بات عند الله جليلاً ولا ذاد عن عرضهم وأظهر خيرهم وفضلهم ومكن لهم في الأرض بكل ما أوتي من وسائل التمكين من أحد إلا حمى الله عرضه وأظهر فضله ومكّن له في الأرض وساد بين أهله كبيراً والمرء مع من أحب وإن التعبد بهذا والإخلاص فيه لمن أجلّ العبادات التي يوفق لها من رزقه الله الحكمة والفقه في الدين.
هذه الكلمات نضعها بين يدي القارئ الكريم مذكّرين بشأن العلماء وآثارهم ومحذّرين الخائضين بالسوء في أعراضهم بالعقاب الوخيم والداعين لتهميشهم وإسقاطهم بالنكسة, فلا يحيق المكر السيئ إلا بأهله مذكرين بقول الله جلَّ وعلا في الحديث القدسي (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب), وقوله تعالى في محكم التنزيل: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}.
وقد علت في الآونة الأخيرة نبرة الهجوم على العلماء تارة برميهم بالتطرف والتشدد وتارة بوصفهم حجر عثرة أمام التنمية وتارة بالجمود وتارة (بتفريخ الإرهاب) إلى حد رميهم بالجهل والتنطّع وسوء فهم الإسلام والجهل بقواعده ومن ثم الدعوة لإسقاطهم وتحييدهم عن مراكز التأثير في المجتمع على كل الصعد, وهو ما يعد سابقة خطيرة إذ إننا علمنا من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن العلم لا ينتزع انتزاعاً وإنما ينتزع بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فأفتوا فضلوا وأضلوا. هذا ما فهمناه وعقلناه.. أما أن ينتزع العلم من العلماء وهم أحياء يرزقون ويقذفون بالجهل ويجرحون ويدّعي ذو الجهل العلم وينفيه عن ذي العلم فهذه السابقة الخطيرة والبدعة المستطيرة التي يقف المرء عندها واجماً لا حراك له من شدة العجب!!! ثم إن هؤلاء الذين يتهمون العلماء بالجهل والتنطّع في الدين والتشديد على الخلق ويدعون لتهميش دورهم في المجتمع!! منقسمون على أنفسهم في الأسباب:
ففرقة منهم تقول: إن السبب هو جهل هؤلاء العلماء بسعة الشريعة وسماحتها في تقبل الخلاف وإلزام الناس برأي فقيه واحد أو مذهب واحد. ثم إن هذه الفرقة تدعو بعد ذلك لفتح الباب (مشرعاً) أمام أي رأي فقهي في مسائل الخلاف وأن لا يلزم الناس إلا بثوابت الإسلام وما وقع عليه الإجماع أما ما اختلف فيه في الإسلام فيأخذ كل بما بدا له بغض النظر عن أي تناقض اجتماعي قد يحدث أو فتنة قد تنقلب إلى طائفية مقيتة!!
وهؤلاء يترجمون رأيهم هذا بنتائجه في الدعوة إلى تحجيم دور كبار العلماء وفتح حق الاجتهاد لكل كاتب أو متكلم ليكون مجتهداً مطلقاً!!
وفرقة أخرى تقول: إن السبب هو كون هؤلاء العلماء مجرد متسلطين بأفهامهم على الإسلام.. والإسلام بريء مما يفهمون... ففتاواهم واجتهاداتهم وتأويلاتهم مجرد (فكر ديني) يعكس فكرهم وفهمهم الخاص للدين وله دوافع سياسية وشخصية ونفعية (براغماتية) لا علاقة لها بحقيقة الإسلام والدين.
وأصحاب هذا القول (إيديولوجيون) أكثر منهم دعاة انفتاح أو عصرنة!! فدعوتهم مغلفة ببعد ليبرلي علماني (سياسي في جوهره) يهدف إلى فصل الإسلام عن الحكم وإحداث انقلاب شامل على النظم والتشريعات وإن كان ذلك لا يبدو ظاهراً لأول وهلة في كلامهم, فهم يصنفون العلماء في خانة (الفكر الديني) على خلفية أن النص الديني نفسه مرَّ بظروف تاريخية تدل على إمكانية التشكيك فيه من حيث ثبوته! وهم هنا يشككون في السنة مطلقاً باعتبارها دوّنت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بمئات السنين ودوّنت في ظروف سياسية مشحونة بالنزاعات والخلافات علاوة على ما يشوب المدونين لها (ويقصدون هنا أئمة الحديث وحفاظه) من العوارض المنطقية المحتملة التي تجعل الباحث يشك في مصداقية ما دوّنوه فهم بشر يجري عليهم النسيان وتشويش الحفظ والخرف والمصلحة وضعف الذاكرة والكذب وما إلى ذلك... بعبارة مختصرة يقولون: لا يمكن أن نجزم بأن كتب السنة هي فعلاً كتب السنة فهي مجرد كلام وأفكار في نسبتها للرسول صلى الله عليه وسلم شك!!
بقي القرآن.. وحتى نكون منصفين فهم لا يشككون فيه كنص!! فهو عندهم قطعي الثبوت محفوظ بحفظ الله له فنصه لا غبار في أنه من عند الله!.. لكن التفاسير القرآنية كلها (عندهم) يجري عليها حكم تدوين السنة فكلها - في رأيهم - تعرضت لتعسف وتمت خلال مناخات سياسية محددة وطرأ عليها تغييرات في النسخ والحفظ ما جعلها مجرد كلام لا يمكن الجزم بأنه فعلاً هو ما أراده الله من كتابه المنزل وهي في النهاية مجرد آراء وأفكار لا يمكن ربطها بالقرآن على سبيل الجزم!!
والخلاصة يريدون القول بأننا إذا استثنينا النص القرآني الحرفي المجرد فكل ما عداه من تفسيرات وشروح للقرآن مجرد فكر ديني!! أي تخرصات لا علاقة لها بالقرآن! أما السنة فنصها ذاته (بحروفه المجردة) هي فكر ديني (أي مجرد أفكار تنسب إلى الدين زوراً) لأننا لا يمكننا الجزم بأن النصوص الحديثية هي قول الرسول صلى الله عليه وسلم فعلاً وقد دوّنت بعد قرون من موته صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فشروح السنة لا قيمة لها لأنها مجرد فكر ديني أيضاً لأنها نابعة أصلاً من أحاديث هي أقرب إلى الفكر الديني منها إلى كلام النبي صلى الله عليه وسلم فالشك هنا في النص وشرحه!! ويترتب على هذا أن كل المدارس الفقهية وما تفرّع عنها مجرد فكر ديني سواء على مستوى العقيدة أو الشريعة!!
وفي الحالتين عند الفرقتين لا يبقى للعلماء دور البتة فعند الفرقة الأولى قد سلبوا حق الاجتهاد والنظر ولم يبق لهم من دور إلا أن يخبروا الناس بما وقع الإجماع عليه أما ما عدا ذلك فلا شأن لهم بالناس, وفي هذه الحالة لن يكونوا سوى نقلة إجماع للمسائل الدينية! وما سوى الدينية فلا يقبل منهم ولو كان إجماعاً!
أما في الحالة الثانية عند الفرقة الثانية فوضعهم أشبه ما يكون برهبان فرنسا قبيل الثورة! أي أنهم مجرد فكر ظلامي رجعي يوظف الدين لمصالحه الشخصية أو الحزبية أو السياسية (للحاكم)! وحكمه الإقصاء.
إنها دعوات تهدف بالأساس إلى إسقاط العلماء وتحييد دورهم في أي مشروع سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو تنموي إنها دعوات صريحة للانقلاب على القيم الدينية التي تمثّل أساس التشريع وجوهر النظم على المستويات كلها في القضاء والسياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم والإعلام وغير ذلك من الجوانب التي يتطرق إليها التشريع! لتبقى أبوابها مشرعة لقوانين القوم التي لا يشوبها ما يسمونه (الفكر الديني)، بل لا تمت إلى الدين نفسه بصلة وللقارئ أن يصنفها كما يشاء!!
هنا نسأل: لماذا يا ترى التحريض على إسقاط دور العلماء؟ بل إسقاط ثوابت الدين نفسه؟ وإلى متى سيظل العلماء في موقف الدفاع أمام أقلية بائسة نكرة في المجتمع؟ وأين برامج العلماء في التصدي لهذا الإسقاط وتبني مشروع الإصلاح الاجتماعي الشامل؟
وللحديث بقية
* * *