جُبلت النفس البشرية على السعي في مناكب الأرض والاسترزاق من خيراتها وثرواتها، كما فطرت تلك النفس على الكد والعمل والبحث عن أسباب العيش ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، ووسط هذا الجو المشحون بالكد والعمل والدخول في أفلاك السعي والعناء وراء لقمة العيش والصراع المستمر للتشبث بالحياة والبقاء فيها، تسعى هذه النفس أن تركن إلى مكان قصي لتتخذ من التجلي والاسترخاء ملاذاً ومكاناً آمناً من صخب الحياة وأناتها، لتحلق تلك النفس في فضاءات التأمل والتدبر بعيداً عن عناء الحياة ومصارعة الركب وتزاحم الحشود، وكذلك ينطبق الأمر على عالم الصناعة فإن المعدات والآلات تحتاج إلى وقت للتوقف لاتخاذ إجراءات الصيانة ومراقبة الأداء وإصلاح أي عطب يعتريها ما استدعت الحاجة لذلك، لتستأنف تلك الآلة عملها بشكل أفضل وبطريقة أجدى وأنفع، النفس البشرية تخوض مع الخائضين في أعمالها ومناشط حياتها وتبحر في ذلك كثيراً ويأخذها صراع الحياة بعيداً عن ساعة تجلٍ أو وقفة تأمل أو استراحة محارب في ساحات التنافس والتسابق المحموم، تزاحم الأولويات في الحياة وحب البقاء والتنافس من أجل العيش وسط حياة كريمة، كل ذلك يقود تلك النفس البشرية إلى العمل واللهاث في ميدان الحياة ليأخذها هذا الميدان المارثوني إلى سلسلة اللحاق بالركب دون أن ترعوي إلى التفاتة إلى الوراء برغبة منها أو بعفويه فرضتها حتمية الموقف لترتيب أوراق حياتها وسلم أولوياتها، استراحة المحارب وهو داخل هذا التشابك الرهيب، وهذا الصراع الذي لا يعرف سوى قانون البقاء للأقوى والموت للأضعف هي من أهم مراتب الضرورة للوقوف مع النفس برهة من الزمن حتى يتم التقاط الأنفاس وترتيب أبجديات ثقافة الحرب والنظر برؤية وسياسة الحكمة حتى يتم تغيير الإستراتيجيات والأهداف إن استدعى الموقف ذلك، في العالم العربي ثقافة الخلوة بالنفس وسياسة استراحة المحارب وإستراتيجية لحظات التأمل وإعادة الأولويات هي ثقافة تكاد تكون في أضيق صورها وأبعادها، حتى الرسل عليهم السلام كان للتأمل والخلوة بالنفس دور حيوي في انطلاقة رسالة كل منهم عليهم من الله الصلاة والسلام .. في العالم العربي وفي الدول النامية تجد الإنسان يبلغ من العمر عتياً ويشيب الرأس ويهن العظم وهو لم يتوقف ساعة تأمل مع تلك النفس وأمشاجها، ولم يسبح في كوامن تلك النفس وأسرارها، بل حتى أنه لم يحدد أهدافه وماذا قدم؟! وماذا أخر؟! وكيف هي علاقته بالله جلً وعلا؟! وعلاقته مع الآخرين؟! وأيضاً علاقته وتصالحه مع نفسه؟! ماذا قدم في الماضي؟! وماذا يريد أن يقدم في الحاضر والمستقبل؟! هل بقي من الزمن متسع لتحقيق الأهداف والآمال؟! والقيام بالأعمال الصالحة المقرّبة لله؟! والبعد عن الأعمال السيئة المقرّبة للنار؟! لو قيل لك باقي من العمر سنة بل عشر سنوات ماذا ستقدم خلال تلك المدة المتبقية من عمرك؟! ستطلب العفو من الذين ظلمتهم؟! أم أنك تريد أن تحقق آمالاً وأهدافاً لم تحققها؟! وفي الأثر أن نبينا موسى عليه السلام لما أمره ملك الموت - وبناءً على رغبة من سيدنا موسي عليه السلام - أن يأخذ أكبر قدر من صوف ظهر الثور ليعطى بكل شعرة سنة تزيد من عمره، فسأله عليه السلام ومن ثم ماذا؟! قال له ملك الموت تموت!! قال بل أموت الآن!!
دلفت إلى الحرم المكي في وقت متأخر من الليل وأسرعت أعد خطوات أرجلي وصعدت إلى الدور الثاني، فإذا برجل مسن ومقعد وهو على كرسي الإعاقة فدنوت منه وهو مستقبل كعبة الله المشرفة، وقطعت عليه خلوته وسألته بماذا تدعو أيها الشيخ الجليل؟! وكيف تشعر وأنت بهذه الحالة وهذا الوقت العظيم والذي يتنزل فيه رب العالمين؟! وينادي هل من سائل فأعطيه سؤله؟! وهل من صاحب حاجة فأعطيه حاجته؟! جلّ الله، قال لي هذا الشيخ كلمة واحدة ولم يزد والله أنني أشعر أنني أسعد من كل ما حملت تلك الأرض من الثقلين جنها وإنسها في هذا الوقت، بل إنني أكاد أن أحسد نفسي من نفسي بما أنا فيه، وإنني أتمنى أن أموت على ذلك!! فاغرورقت العينين وذهبت أبحث عن مكان قصي حتى أخلو بنفسي لأتجلّى وأستشعر كلام هذا الشيخ الجليل؟!
قال أحد الفلاسفة إن ساعة تتأمل فيها خلق الكون وأسرار نفسك هي أعظم من سنة تتعلم فيها العلوم الكونية، وقيل في الأثر إن ساعة تأمل بخلق الله وعظمته وحكمته في تدبيره لكونه وعظيم أسراره في الكون والأفلاك، هي أعظم من سنة يتعبّد فيها الإنسان، جميع الاختراعات والتحولات في الحياة الدنيا من استكشافات واختراعات كانت نتيجة لحظة تأمل وتجلٍ وخلو بالنفس وتدبر وإمعان في التفكير، (وجدتها ... وجدتها) هذه الكلمة المدوية من انشتاين كانت إحدى النظريات التي غيّرت مسار وخارطة الكون في العلوم والنظريات الفيزيائية والرياضية، كل الناجحين أيها السادة هم من الذين يرسمون الاستراتيجيات ويخططون للمستقبل، هم من الذين يحتاجون إلى وقفات تأمل ولحظات خلوة بالنفس، الفرق بين المدير والقائد في القواعد المسلّم بها في عالم الإدارة، أن المدير هو الذي يرتب وينظم ويوزع كروت صعود الطائرة، بينما القائد هو الذي يحدد الجهة والمسار لتلك الطائرة، أنا هنا أنادي في هذا المقام أن يترك المديرون التنفيذيون والقادة كل التفاصيل التي تأخذ بهم إلى عكس المسار الذي رسم وحدد لهم من قبل شركاتهم، أنهي مقالي هنا بأن أقول لحظة تأمل قد تعطي فرقاً استراتيجياً في حياة أحدنا أو مستقبل شركة ما أو نجاح أسرة في مجتمعنا.
كاتب سعودي
Kmkfax2197005@hotmail.com