بعد طول انتظار من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات لكادر جديد يحسن أوضاعهم تفاجأ الأساتذة ببدلات لا تمس السلم الوظيفي، وإنما تصرف أو تمنع حسبما تراه اللجان المشكلة لمتابعة ما صدر بهذا الخصوص.
وإذا كان صرف بعض تلك البدلات يبدو واضحا منذ لحظة الإعلان عنه، فإن بعضها الآخر يكتنفه شيء من الضبابية التي تسمح بدخول تفسيرات كثيرة تعطي البدل لأقوام وتحجبه عن آخرين لا يقلون عنهم كفاءة وتميزا.
وحتى لا تضيع هذه المقالة في مناقشة طبيعية تلك البدلات وأسس صرفها، وحتى لا يعيد الكاتب ما سبق أن طرحه آخرون بخصوصها، فإني أتوقف عند بدل الندرة الذي نما إلى علم أعضاء هيئة التدريس - في بداية الأمر- أنه سيصرف للجميع بحجة أن كل الأقسام العلمية في الجامعات لا تزال لم تحقق كفايتها من الأساتذة السعوديين المؤهلين.
إن هذا التفسير لصرف هذا البدل يبدو أكثر عدلا، ولا يُشْعر أعضاء هيئة التدريس بخيبة الأمل التي ستحصل عندما تحرم منه بعض الأقسام التي تحس بأنها مواكبة لحاجة المجتمع ولسوق العمل.
أقول هذا الكلام لأن التفسير الذي استقرت عليه لجان متابعة صرف تلك البدلات يقضي باستبعاد كليات الشريعة والآداب والتربية، ولا يستثنى من تلك التخصصات إلا تخصص القراءات والتربية الخاصة ورياض الأطفال واللغات الأجنبية والترجمة.
ولا أدري ما سبب صرف هذا البدل لهذه التخصصات التي تبدو للوهلة الأولى غير نادرة، المشكلة إذن تعود إلى المعيار الذي احتكم إليه مفسرو القرار، وأعتقد أن هناك مجالات شرعية تبدو نادرة لم يشملها التفسير كالتخصص في التعاملات البنكية، وفي فقه الواقع، وفي قضايا النوازل، وفي أنواع كثيرة من البيوع الجديدة.
والذي عايشته على صعيد الدرس اللغوي أنه لا يسمح بتسجيل موضوع للدكتوراه سبق أن عالجه باحث آخر، مما يعني الجدة التي لا تنفك عن الندرة فيما يطرح ويعالج داخل الأقسام الأدبية.
إن كل باحث في الشأن الأدبي والنقدي، يخوض غمار موضوعات نادرة، ولا يسمح له في الأقسام العلمية بأن يكتب أطروحته في موضوع مسته أقلام الكتاب. الندرة إذن متحققة، فلماذا يحجب البدل؟.
إن استبعاد بعض الحقول المعرفية يُشعر أصحابها بالدونية ويؤثر على عطائهم العلمي والثقافي، وينعكس ذلك -بدون شك- على الطلاب والدارسين، وفي المقابل يتولد شعور بالتعالي عند من يصرف لهم هذا البدل؛ لأنهم نالوا ما لم ينله الآخرون، ولو كان حصولهم على هذا الحق بسبب يميزهم لما اعترض من حُرِم من ذلك، ولكنه اجتهاد أحسبه بحاجة إلى إعادة نظر.
لا أقول ذلك منحازاً لتخصصي فأقع في فخ التعالي الذي حذرت منه، ولا أشك في أن تلك اللجان عولت في صرف البدل على ندرة المتخصصين في الحقل المعرفي.
إن هذا المعيار المعتمد ينذر بكارثة تضر بسوق العمل عوض أن تلبي احتياجاته؛ ذلك أن من يحصلون على هذا البدل سيتشددون في قبول الطلاب الملتحقين بقسمهم، ويحاولون تقليص عددهم، بالإضافة إلى الحد من تعيين المعيدين حتى تظل الندرة قائمة؛ فيستمر صرف البدل.
تخصص كالطب -مثلا- يبدو نادراً عندنا، لكننا ينبغي أن نسأل أنفسنا لماذا؟ هل طلابنا أضعف من غيرنا؟ وهل قدراتهم محدودة؟ وهل هم لا يمتلكون قدراً من الجلد يؤهلهم للحصول على النسب المرتفعة؟ وهل إمكاناتنا المادية ضئيلة؟ أظن أن الجواب على هذه الأسئلة سيكون بالنفي.
نسب عالية تقارب الكمال 98% و99% ومع ذلك لا يقبلون في كليات الطب، وهو أمر لا نراه في الدول العربية الأخرى، طبيعي بعد ذلك أن يكون هذا التخصص نادرا؛ لأن القائمين على القبول في تلك الكليات لم يستوعبوا من هم جديرون بدخولها.
لو أن أساتذة الطب -حفظهم الله- توسعوا في قبول الطلاب، وفي تعيين المعيدين لما كانت هناك ندرة، ولما كان هناك عجز. الندرة إذن سببها حجب الطلاب عن التخصص، والحيلولة بينهم وبين الالتحاق به، فهل يستحق من يمارس ذلك أن نميزه بصرف البدل، ونمنعه عن آخرين فتحوا قلوبهم قبل أبوابهم لأبنائهم الطلاب وحاولوا احتواءهم وتلبية رغباتهم؟!
* كلية اللغة العربية - جامعة الإمام