في أحضان الطبيعة الخلابة تنام القرية الحالمة مفترشة البساط الأخضر ملتحفة بالضباب.. تعيش السعادة بأمل أبنائها وتمارس طقوس الحياة بتفاؤلهم وصدق تعاونهم وكفاحهم من أجل البقاء الذي يقوم على مهنة الزراعة والرعي وفي ظهيرة ذلك اليوم المشمس من صيف عامنا السادس من مطلع قرننا الهجري الذي نستقبل اليوم عامه الثلاثين.. عاد أهل القرية إلى منازلهم المتواضعة لأخذ قسط من الراحة ولتناول وجبة الغداء التي لا تتعدى كسرة خبز قاسية وقليلا من اللبن أو القهوة وهي في نظرهم سفرة قد حوت كل ما لذ وطاب، لكنه حقا الكنز الذي لا يفنى فجأة صوت هز حدود القرية تبعه زوابع رعدية.. الشمس بدأت تختفي بين ركام السحاب الذي كسا الجو لطفا وجمالا. بينما الرياح بدأت مناوراتها وهي تحرك سكون القرية والسماء قد بدت سوداء مظلمة.. تعالت الأصوات وهب الجميع مسرعين لتغطية الأعلاف وتفقد السواقي.. بدأت حبات المطر تصافح الأرض قطيع الأغنام ذو اللياقة البدنية العالية أخذ طريقه مسرعا إلى (زريبته) ثم أخذت المصافحة تشتد قليلا قليلا حتى قبل الغروب بساعتين ليخرج بعدها أهل القرية فرحين مستبشرين شاكرين ربهم وله مهللين ومكبرين على هذه النعمة العظيمة.. الشعاب مازالت تسيل والأودية بما حملته لها تجري.. اللهم لك الحمد مالنا يومين من يوم صلينا صلاة الاستسقاء.. ما شاء الله قالها الجد وهو يستمتع برحمة الله.. روعة الأرض بعد المطر منظرها خلاب والهواء نسيمه هباب.. تنظر أمامك.. حولك يا للدهشة كل شيء بعد المطر جميل تهتز مشاعرك.. تتحرك عواطفك يستيقظ وجدانك.. إن لم تكن شاعرا فستحاول أن تجرب وإن كنت كذلك فحتما ستبدع، وأنت ترسم تلك الطبيعة وتنقلها بالحرف والكلمة وتترجمها، كما هي واقعا حيا يطرب له المستمع ويشتاق لمرآه البعيد.. حقا ما أجمل عطر المطر حين يمتزج بالعشب والتراب وما أروع تلك اللحظة التي ظلت فيها حباب المطر عالقة بالأوراق في عناق سحري لا يلبث إلا قليلا حتى يبطله الهواء وهو يحرك أغصان الشجرة فلا تملك قطرة المطر إلا أن تنساب حتى تقع على الأرض معززة مكرمة.. لكنها لحظات بسيطة والسماء مبلدة بالغيوم.. المطر يعود بغزارة والظلام قد أقبل من على حواشي الأفق مرتديا لباس الليل الجد مع الابن والأحفاد يؤدون صلاة المغرب والأم في زاوية البيت توقد النار وتجهزكل شيء استعدادا لطهي العشاء.. المطر توقف عن عزف سيمفونيته.. الجميع خرجوا فرحين مستبشرين حامدين ربهم وله شاكرين السماء كانت شبه صافية والنجوم قد بدت أكثر وضوحا وهي تتلألأ في كبد السماء.. لكن لمعان البرق وصوت الزوابع الرعدية ما زال يبشر أن العرس لم ينته بعد.. الجو كان أكثر هدوءا إلا من أصوات السيول في الأودية والشعاب والمنحدرات أو بعض الجيران الذين تبادلوا النداءات للاطمئنان على سلامة بعضهم بعد ذلك الليل الماطر.. وبعد العشاء سموت الأسرة على ضوء القمر ثم أخذ كل مكانه وبدأوا يسبحون في بحر من الأحلام لكن الجد بشخيره كان أكثر إزعاجا لأهل البيت والقرية الذين لم يسلموا منه وهو يعكر عليهم مزاج النوم.. وفي الهزيع الأخير من الليل تعالت الأصوات مطر.. مطر.. تسابق الجميع كل حمل فراشه المتواضع إلى داخل البيت ذي الجدران الحجرية والسقف الخشبي المتهالك وابل المطر كان يهطل بغزارة والرياح تجري بشدة رائحة (القاز) المنبعثة من أسراج أضافت لمشاعرهم جوا من الدفء والأمان وزادت إضاءته والأم تعلقه على عتبة البيت (الجد) يطل من شرفة الباب وهو يهلل ويكبر.. يا رب سلم.. سلم غديرا من حبات المطر فوق السطح يعقد لقاءه الدائم مع كل عرس.. وأخذت قطراته واحدة بعد الأخرى تحل ضيوفا غير مرحب بهم.. وبدأت تهاجم الفرش التي شبع الزمن وهو يأكل عليها ويشرب.. لكن خبرة الحياة وتجاربها جعلتهم أكثر نضجا وهم يضعون وعاء صغيرا يستقبل هؤلاء الضيوف الذين لا يلبثون إلا قليلا ويخرجون مطرودين حين يمتلئ ليعود من جديد في الاستقبال والطرد قطيع الغنم يستنجد بأصحابه لكن لا حياة لمن تنادي كلا يقول.. نفسي.. نفسي.. كبار السن في القرية كان أكبر همهم أن تمتلئ برك الماء وترتوي الأرض والمزارع وأن تكون السيول أكثر لطفا وألا تلحق بها أضرارا كبيرة ثم يعقبه هم الماشية أن تبقى كاملة العدد.. ومع شروق الشمس أخذ عرس المطر يخف قليلا.. قليلا.. حتى انتهى خرج أهل القرية من بيوتهم باحثين عن الدفء وكل شيء قد اغتسل بالمطر وغدران المياه تحولت إلى مرايا عاكسة لشعاع الشمس في وجه ناظرها كان كل شيء مما نعيشه اليوم على بداياته ومنها البيت المبني من الخشب والزنك والمعرف (بالصندقة) الذي لا يملكه في ذلك الزمن الغابر غير تاجر القرية الوحيد وميسور الحال بين أهلها الذي كان حينها وفي نظرهم إنه يعيش قمة الحضارة وهو يودع بيته الحجري ويمنحه (لماشيته) لكن الأصوات تعالت وتبادل أهل القرية نداءات النخوة تاركين مزارعهم تصارع الغرق وبطون ماشيتهم تتلوى جائعة وهرعوا مسرعين لنجدة أبو (رأفت) وعائلته الذين أصبحوا هم وبيتهم المصندق مفقودين بعد أن رفعت جدرانه رأيتها البيضاء مستسلمة للرياح الشديدة وهي تشتت شمله ثم اقتلعته من أصله وهوت به في مكان سحيق.. فلم تجد الأسرة حلا إلا أن تمضي بقية ليلتها مع الغنم وتحت ضيافتها الكريمة.. وبعد يومين توجه أبناء القرية لمدرستهم الابتدائية المتواضعة التي لا يتجاوز عدد طلابها أصابع اليدين وثلاثة مدرسين من خارج البلاد وكانت العائلة المقتدرة هي من تملك (حمارا) فالطالب الذي يذهب للمدرسة ممتطيا صهوة (حماره) يعتبر ابن النعمة والرفاهية.. أما مربط (الحمير) فقد كان بالقرب من باب المدرسة لذلك كثيرا ما يختلط صوت نهيقها بأصوات الطلاب وهم يقرؤون وتعكر على المعلم جو الشرح، وهذا ما حدث في إحدى الحصص حين ضاق المدرس ذرعا بتلك الأصوات المنكرة وهو يخاطب طلاب الفصل (اللي عنده حمار بره يرفع يده) بكل الفخر ونوع من الغطرسة ارتفعت الأيادي متباهية ثم قال: (جاتكم نيلة).. أحد الطلاب المساكين ذي الجرأة العالية لا يملك (حمارا) أصابته الغيرة من زملائه وهو يقول: (وأنا يا أستاذ قال المعلم وأنت الله يخرب بيتك) تضاحك الطلاب.. أصلا يا أستاذ ما عندهم بيت بس عندهم (عشة) أولك أخرس أنت وياه قالها المعلم وهو يقذف أحد الطلاب بالطباشير.. أما فراش المدرسة العم أبو (صالح) الذي كان كثير المزح والضحك مع الجميع لم يعد اليوم يمازح ويضاحك إلا الكبار من هم في مستواه المعيشي والمالي. خاصة وأنه صار من وجهاء المنطقة وتجارها الكبار.. لكن براد المدرسة ذا اللون الأصفر الذي تحول مع الزمن إلى أسود كان العار الذي يلاحقه خاصة وأن هؤلاء الطلاب الأكثر قراءة لتاريخه الأسود، كما يعتبره قد تعلموا وأصبحوا من الشخصيات القيادية في المنطقة وحين يتعالى عليهم (أبو صالح) يذكرونه ببراد المدرسة وأيام القهوجية. المهم أنه وبعد ذلك الخير الذي عاشته القرية أقام أهل (العين) حفلا كبيرا لأن ابنهم الجندي قد عاد من الشام وهنا ليس المقصود به بلاد الشام بل كان حينها من يخرج من حدود القرية مسافرا لأحد مناطق المملكة يقال عنه شايم أي سافر إلى الشام.. الكل يتأمل في لباسه الجميل ومظهره اللائق كل شيء فيه يدعو للإعجاب خاصة بنات القرية اللاتي يتجسسن عليه بنظراتهن المعجبة وكل منهن تحاول من بعيد أن تناول إعجابه وتخطف قلبه وتدخله قفصها الذهبي كل شيء فيه تغير حتى طريقة كلامه وأسلوب حواره كان فيه نبرة من لهجة الصحراء البدوية الذي كان فيها صعوبة على أهله وعشيرته في معرفة بعض معانيها نظرا لاختلاف الثقافات واللهجات ومنها على سبيل المثال لا الحصر كان يحك للضيوف عن رحلات القنص مع زملائه في العمل وقال: طلعنا مرة للبر: (كاشتين وغرز علينا (الموتر) قاطعه أحد الضيوف سائلا وش هو (كاتشين) و(المتوتر) هم من خوياك رد عليه: لأ كاشتين يعني متمشين والموتر يعني السيارة تبادل الحاضرون النظرات ومن آخر المجلس قال أحد الشباب متعجبا أو تعرف تمشي بها يعني السيارة أجاب متفاخرا نعم تراها بسيطة وأنا أخوك قال أحدهم ما شاء الله عليك الله يحفظك لوالديك.. أما الموضة في ذلك الحين فكانت علبة السجائر والكبريت لذا كان أبناء القرية يلاحقونه على أمل أن يرمي سيجارته التي بيده بعد أن يمتص سمها وهذا ما حدث يومها وبعد أن تناول الضيوف الغداء أسرع بعض شباب القرية إلى الجبل المقابل ورصوا الحجر الأبيض (المرو) فوق بعضه كعلامات استعداد لرماية التحدي وهي ما يبعث في نفوسهم روح الفرح والبهجة والسرور.. كل شيء في تلك القرية تغير إلى الأحسن وانطلق الجميع في بناء المقومات الحضارية والاستثمارية ولم يبق من ذكريات القرية غير المدرسة الابتدائية التي تحولت إلى مأوى للعمالة المقيمة والمتخلفة.. أما ابن أهل (العين) فقد تزوج وكبر أبناؤه وهو اليوم من سكان إحدى مناطق الشام بالمملكة التي استقر بها بعد أن ملك بيتا هناك وأحيل للتقاعد وقبلها كان قد أعلن مقاطعته (للتدخين) وقد أقلع عنه.
* الحرس الوطني بالرياض
1398@hotmail.com Gaber