استكمالاً لما بدأناه في مقالنا السابق حول الشروط الواجبة للزواج الصحيح درءاً من السقوط في دوائر (فوبيا الطلاق).
إن بواعث (جودة الحياة) الزوجية لبقاء الأسرة وتحقيق السعادة التي تظل كافة أفرادها إنما تكمن أصلاً في التوافق بين الزوجين، ومن أمارات هذا التوافق سلوك التواصل الفعال المبني على الحميمة والتعاطف الحاني والمشاعر الطيبة.. وهي مؤثرات أساسية في دعم الحياة الزوجية، تلك التي يطلق عليها علماء النفس بمفرحات النفوس، ومزيلات الكدر ومذيبات القلق، إنها مفاتيح خير ومصدات للشر.
وقد ثبت من دراسة العديد من حالات الطلاق، ومن خلال التجربة المهنية الميدانية -لكاتب المقال- أن العوامل المباشرة المسببة للطلاق: عدم اهتمام الزوجة -الاهتمام الكامل- بشؤون الزوج قدر اهتمامها بخصوصية المشاعر، أيضاً عدم إلمامها -إلماماً كافياً- بفنون المطبخ وإعداد الطعام، وكذلك عدم إجادتها لحسن استقبال الأهل واستضافتهم هذه العوامل وغيرها تدفع الزوج وبقوة للتفكير ملياً، وقد يصل به الأمر إلى أنها تمثل أمية في شؤون البيت شأنها شأن الأمية الهجائية كانت تحتاج في بيت أهلها أن تخضع لبرنامج جيد لمحو أميتها هذه، وقد يبلغ به التفكير إلى أنه إهمال لا يمكن السكوت عليه فيسقط في حومة الغضب المفضي لتحطيم الذات ومن ثم فتحطيم وهدم المعبد على من فيه فيقع الطلاق كملاذ يظن فيه راحة للنفس وتخفيفاً لشعور التعاسة لعدم التوافق في حسن الاختيار وتنتابه مشاعر وجدانية سلبية تؤدي إلى اهتزاز صورة الزوجة في نظرة، وإلى عدم الثقة في إمكاناتها والتشكك في قدراتها وينتهي به الأمر إلى أنه غير آسف على نحو العلاقة القائمة.
ومن الملاحظ في واقعنا المعاصر أن حجما كبيرا من الأهل باتوا يهتمون بمسكن الزوجة وتأثيثه وتجهيزاته وذهب العروس وتنويعاته وتغير سيارة العريس، والاتفاق على حفل الزفاف، ومكان قضاء شهر العسل والنزهة.. وعدت هذه الأمور آداباً يتوجب الالتزام بها وعدم النأي عنها أو تغافلها ولم يعبء هؤلاء الأهل بأنها أمور استعراضية ومبالغة واستجلاب للاهتمام واستدعاء للانتباه.
هكذا لم يهتم هؤلاء الأهل بنمط شخصية العريس، وبمن كان على خلق وبمن يتمتع بعلو الثقافة وأسباب السلام والانتماء لعائلة صالحة في بيئة طيبة، ومجتمع كريم، وعلم مستنير -لأن من المتيقن منه أن غاية الزواج المثلى هي بلوغ السعادة للزوجين ولما وهبهما الله به من أبناء، وتحقيق إمكانات التفاعل الموجب في المحيط الاجتماعي الداخلي (الأسرة)، والخارج (المجتمع)، والإحساس بالثقة في النفس، وخفض مستوى القلق والتحفيز الذاتي لأداء الدور المنوط القيام به من قبل كل من الزوجين.
وفي هذا الصدد لا بأس من أن نذكر بقانون من القوانين الاجتماعية والطبيعية ومقتضاه: أنه إذا كان ممكناً أن يسوء الحال القائم فإنه سيسوء، ولكن ليس بالمحتم تحقيقه، لأن الفرض من هذا القانون هو التحصن من وقوعه.. والسبيل إلى ذلك هو العمل على تلافي أسباب الوقوع، وذلك بأن نأخذ حذرنا، ونتصرف إزاء الاحتمال الممكن بسلوك عرضي قويم يحول دون سوء الحال أو التخفيف من سوء الحال إذا تحقق.
هكذا يتضح أن ترك الأمور لتسير بعشوائية مطلقة لا يضمن البتة إحراز النجاح بل لعله يؤدي إلى الفشل، لأن قوانين الطبيعة أوضحت لنا أن الدفاع الذاتي وحده لا يكفي حيث إن الأمور تتجه بطبيعتها إلى أن انسيابية الخمول تؤدي على الخمول والدعة ومن ثم فإلى الخوار و(التحلل)، في الوقت الذي قدر فيه على الإنسان أن يجد ويجتهد في العمل {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}.
والجدير بالذكر أن الحياة الزوجية ليست منحة مجانية بل قوامها عمل دؤوب مثمر ومبدع لبقائها وارتقائها. إذن فتدني القدرات الفنية المهارية المتعلقة بشؤون الزوج والمنزل قد تضعنا أمام احتمالات (ممكنة) لنشوب مشاحنات وانفعالات هوجاء بين الزوجين تؤدي إلى صراع ممقوت ينتج عنه توتر وعدم شعور بالرضا والاضطراب النفسي، وهذا كله يرجع لعدم الاهتمام بمدى توافق شخصية الزوجين وانصب الاهتمام فقط على الأمور المادية حتى ولو كانت فوق طاقة الزوج بسبب الطموح الزائد للأهل.. وهذه مشكلة، فهل تعد مشكلة ثقافة مجتمعية؟ أم أنها مشكلة عوامل اجتماعية؟ أم ترجع لأحوال مجتمعة اقتصادية؟ أم مردود عوامل خارجية تتعلق بالمحاكاة والتقليد؟ أم هي ذات صلة بالوعي الحضاري المرتبط بمستوى ونسبة التعليم؟ أم أنها ترجع لعوامل شعورية ولا شعورية في السلوك الإنساني؟ عموماً هي المركز الذي تدور حوله مشكلة الزواج وتأخره ومعاناة المقبلين عليه وتدهور حياة من وقع فيه.
ويجدر بنا القول ونحن نقرب من نهاية مقالنا أن ثمة خطأ في النظرة المادية المجردة وأن التمحور حولها يثير الكثير من الجرح.. ولذا فإن التمسك بها أصبح مستحيلاً لدى قطاع كبير في فئات الشباب، وربما كانت تصلح لعصر غير عصرنا، ومن يتشبث بها كأنما يتشبث بوضع عقبات قوية أمام الزواج مما يهدد أمن المجتمع وسلامته أن هذه النظرة المادية تحتاج الآن لمراجعة كما أن ثمة معتقدات اجتماعية أخرى تحتاج لمراجعة في ضوء الواقع المعاصر المكتظ بالتحديات.. وعلينا ألا ننزعج لهذا القول ونأمل ألا يتهمنا أحد بأننا نضع مبرراً للخروج على الأسس الراسخة في المجتمع، أو أننا نحث على القيام بسلوكيات على غير ما هو معتاد بالمجتمع، أو أننا نشطح في أوهام متخيلة، أو أننا انسحبنا وراء أفكار مستغربة. إن هذه التصورات جميعها تحيق بمن هم في حيرة من تحديد تحديات التغير الاجتماعي الراكض في واقعنا المعاصر ويوافقهم كاتب المقال في أن نوع وحجم التحديات أمر نسبي من مجتمع إنساني لآخر، ومن بيئة حضارية لأخرى، ولكنها موجودة -على أية حال- وأن أول من وقع في أتونها هم الشباب مما كان له بالغ الأثر في نمط الشخصية والتفكير والإدراك والسلوك في النظرة إلى الحياة وتوقعات المستقبل، بل إلى الدور والوظيفة والمحاكة وهذا ما يوقعنا في دائرة المخاوف فما السبيل إذن؟!
إنه الأمان... والانتقاء... والإنجاز.