لما هو آت ثمرة, تنوف فروعها..! د. خيرية إبراهيم السقاف
ثلاث عشرة سنة مذ كانت تجلس على المقعد الأيمن نحو مكتبي وعيناها تحملان أسئلة أعمق من بحرهما ذي الثمانية عشر عاماً، تسأل النصيحة لأي الطرق تتجه في دراستها، ولأي المسالك تأخذ بأيدي إخوتها، وقد غاب طيف الأب من فسحة الدروب، واختفت عصاه التي يتوكأون عليها ويدلون بها..
يوم أن ألقت عليّ بمسؤولية النصيحة، كنت أثق أن الله تعالى سوف يكون لهم الهادي الدليل، فهناك أم تنتظر خلف الباب، حتى تدخل آخر دعسة لأبنائها، وتقف بجواره حتى تخرج آخرها, وحين كانوا يتجهون للمدينة حيث يتعلمون, لم تكن ليستقر بها نبض حتى يعودوا.., لم يكونوا زغب القطا فقد حملتهم أقدامهم للجامعة وللثانوية وللمتوسطة.., كانت مدارات حديثنا الأول استشفافاً لبذور الرغبة في المكنون، تلك التي إذا ما تحركت بالإنماء نبتت فأينعت, وبناء عليها انخرطت في دراسة تخصص تخيرته بإرادتها, ومن ثم كنت إليها تماماً كما لغيرها من نظيرات، نذلل معاً الصعب لاجتياز عثرات الطريق, كانت المؤونة كلمة طيبة، وتحفيزاً جاداً، وتوضيحاً لغامض، ثم اتجهت منهن للتخصص الطبي الصحي وأخرى للعلمي التطبيقي, وكانت هي دوماً تحيطني بما يطمئنني، إذ لم تهمل إفادتي بخطوات إخوتها في مدارسهم، وصحة أمها في منزلهم.., وكنت كلما هاتفتني لخبر نجاح أحدهم، أجد هذه الأم الصابرة الصامدة هي الدافع الأول والمحضن الرئيس, فتمدني بما لديها من فرح وتذر في عروقي البهجة بتوفيق الله لها ولإخوتها تماماً كما هي فرحتي بمن بين يدي..
بالأمس هاتفتني تطمئنني عن آخر حصادها: (أختي تعينت في أحد المراكز الطبية الشهيرة، وأخي عُين في مؤسسة تعليمية بارزة، وأختي الأخرى اختيرت للعمل من بين مجموعة كبيرة لتميزها في الخبرات, وأنا اخترت من قبل لجنة مسؤولة للانتقال للعمل الثابت في مجال عملي بمؤسسة جديدة ومهمة تتطلب الخبرات بعد أن أثبت تفوقي...، نقطف الثمار يا أمي.. الآن)... بخ بخ يا عذاء..
نداء جميل ومغر لي كثيراً..
استعدت صورتها وهي للمرة الأولى تقابلني، ومنذ ذلك، وهي ككل المارات بي، يمددنني بنبض الحياة
في حياة لا أصدق فيها من أمومة العلم والعطاء، حين يكون الإثمار عناصر فاعلة، ليتم عندئذ للأم الصابرة في البيت أن تعود لمقعد الاطمئنان وتدع الأبواب التي كانوا يخرجون منها للعلم ويعودون إليها بالأمل، مشرعة للعطاء، والإنجاز، وبناء الدور.. وتعزيز الذات... فليباركهم الله لها..
عذاء، ليوفقك الله بنيتي وإخوتك وتكونون قرة عين لهذه الأم الصبورة الطيبة الحنون.