Al Jazirah NewsPaper Monday  09/02/2009 G Issue 13283
الأثنين 14 صفر 1430   العدد  13283
الريع معول هدم الاقتصاد الوطني؟
د. محمد بن فهد القحطاني *

 

الريع (سلاح دمار شامل) يخلق كارثة لشخصية الأمة ويقوض روح العمل ويدمر أخلاقيات المجتمع من خلال إحداث تغييرات جذرية ليست فقط في هيكلة الاقتصاد الوطني ولكن كذلك في حوافز العمل والاستثمار، فلقد وثّق الباحثون في حقل التنمية الاقتصادية تلك الآثار السلبية في الاقتصاديات التي تعتمد على الريع من صناعات استخراجية ومعادن نفيسة وما يصحب ذلك من طفرات تؤدي إلى اندثار الصناعات وعزوف المواطنين عن العمل في النشاطات المهنية على الرغم من أجورها العالية.

إذا كان الخبراء يقترحون تبني سياسات اقتصادية لتقليص الآثار السلبية المباشرة للريع على الاقتصاد الوطني، فإن للريع بمعناه الشامل انعكاسات خطيرة تمتد للعديد من القطاعات بل إنه يمكننا القول إن سلوك الوحدات الاقتصادية المدفوع بالبحث عن الريع هو السبب الرئيسي في العديد من المشكلات الاقتصادية التي لا يمكن الوصول لحلها جذرياً دون تبني آليات تمنح الحوافز وتكفل تساوي الفرص من خلال المنافسة العادلة وتضمن القضاء على الريع. فما هو المعنى الشامل للريع؟ وهل الريع حقاً سبب أساسي في استشراء بطالة المواطنين وتأخر السعودة؟ وما العلاقة بين الريع وسوء توزيع الاستثمارات؟ وهل استفحال البحث عن الريع يؤدي إلى الفقر في المجتمع وهروب رؤوس الأموال للخارج؟ تفترض نظرية المنافسة الكاملة تساوي الفرص بين جميع الوحدات الاقتصادية سواء كانوا منتجين أم مستهلكين، فالريع بمعناه الشامل هو عكس تساوي الفرص فهو يمنح ميزة تنافسية (غير مشروعة) لوحدة اقتصادية معينة تستطيع استغلالها في تعزيز موقعها في مواجهة الوحدات الأخرى التي قد تكون أكثر كفاءة، فالواسطة (Nepotisms) في هذا الشأن تعتبر نوع من الريع فهي تفتح الأبواب المغلقة لغير المؤهلين في قبول الجامعات والتوظيف وفي الوقت نفسه تفوت الفرص على الأشخاص المتميزين الذين إذا منحوا الفرصة المتكافئة خدموا المجتمع وساهموا في التنمية.

إن غياب المنافسة العادلة يخلق واقعا مشوها يمنح الأرباح الفلكية لشركات قد لا تملك أية معطيات للنجاح سوى تلك المقومات المصطنعة من خلال المعرفة أو القرابة وفي أحيان كثيرة الشراكة الخفية مع صانع القرار داخل أروقة المؤسسات، هذه العلاقات غير المشروعة تحرم المنشآت الأكثر كفاءة والأجدر بالنجاح فعلى سبيل المثال هناك نشاطات صناعية ذات أرباح هائلة يحتكرها عدد صغير من الشركات ولا تُمنح تصاريح لمنتجين جدد قد يكسروا الاحتكار مما أدى إلى حرمان الاقتصاد الوطني من اتساع القاعدة الصناعية وتنويع مصادر الدخل الوطني.

الدخل الريعي الهائل قد يحرم المجتمع من مشاريع تنموية وحضارية جديدة إذا ما كان في ذلك تهديد لمصالح المنفذين الذين يحتكرون بقوة النظام شركات تقدم خدمات بدائية لا ترتقي لمستويات الخدمات المقدمة حتى في الدول النامية المغرقة في التخلف، المثال الواضح في هذا الشأن هو تقديم خدمات سقيا المياه داخل النطاق العمراني في المدن الكبرى باستخدام أساطيل من الصهاريج التي تحقق أرباح طائلة وكان من المفترض أن يكون ذلك الأسلوب مؤقتاً لكنه من المتوقع أن يستمر حتى في المستقبل البعيد وذلك بتعمد.

لعل المثال الآخر هو واقع سوق العقار الذي يسيطر عليه مجموعة من كبار تجار العقار الذين يحتكرون مساحات شاسعة ومخططات سكنية بالغوا في أسعارها بشكل خرافي والذي أدى إلى حرمان المواطنين من حق امتلاك السكن الخاص من خلال إحباط أية مبادرات قد تؤدي إلى تراجع أسعار العقار ولعل أسطع برهان على ذلك هو قيام تحالف من العقاريين قبل عدة أعوام بالضغط على مجلس الشورى حتى يتخلى عن مشروع قرار يخول الجهات المختصة فرض ضريبة على الأرض غير المستغلة والمحصلة النهائية لكل تلك الممارسات هي النسبة المخجلة لامتلاك الأسر للمساكن الخاصة والتي تقدر بما نسبته فقط 22% من إجمالي الأسر السعودية، هذا الوضع المتردي ترتب عليه انعكاسات اجتماعية خطيرة مثل العزوف عن الزواج وتراجع تشكيل أسر جديدة.

لعل أهم النتائج المترتبة على وجود الريع هو الخلل في توزيع الاستثمارات بعيدا عن النشاطات المجدية والمفيدة للاقتصاد الوطني وتوجيهها إلى استثمارات خدمية ذات أرباح سريعة ومضرة بالمصالح الوطنية، المثال على ذلك هو الاستثمار في النقل العام الذي ترتب عليه إقصاء المواطنين وإحكام سيطرة العمالة الأجنبية بدعم وسيطرة مجموعة من المستفيدين الذين استطاعوا إعاقة محاولات السعودة المتكررة متذرعين بالخسائر التي لحقت بهم جراء دخولهم في استثمارات جديدة تتعلق بتحديث الأسطول. لكن الحقيقة الدامغة هي ذلك الريع الهائل الذي يقدر بمئات آلاف الريالات اليومية لقاء إيجار سيارات الأجرة لسائقين أجانب لا يتقنون أبسط فنون القيادة ومساعدتهم في الحصول على رخص السير وتقديم الحماية لهم من خلال التستر على الجرائم الشنيعة التي يرتكبونها مما ترتب عليه شعورهم بغياب المحاسبة والنظام مما دفعهم إلى استباحة محرمات البلد بارتكاب المزيد من الجرائم طالما أنها تدر دخلاً كبيراً يستحق المغامرة.

لقد أدى الريع في مجمله إلى القضاء على مشاريع المواطنين الصغيرة وتسليمها لعمالة أجنبية سواء كان ذلك في قطاع النقل العام أو قطاعات البيع والتوزيع وترتب على ذلك انتشار الفقر والبطالة في صفوف المواطنين وإغراق سوق العمل بعمالة أجنبية رديئة.

*أستاذ الاقتصاد المساعد، معهد الدراسات الدبلوماسية
mqahtani@ids.gov.sa



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد