بإنجاز الانتخابات المحلية لمحافظات العراق، وبما حققته من نتائج تؤشر لمرحلة جديدة للحالة السياسية لهذا البلد العربي، تكون الديمقراطية في العراق قد (شبّت) قليلاً بتجاوزها مرحلة الطفولة. وإذا كان العراقيون قد بدأوا (رضاع الديمقراطية)، فإنهم بتأدية واجبهم الانتخابي، وبما أفرزته أصواتهم يكونوا قد دخلوا مرحلة (الفطام)، بعد أن أثمرت مرحلة (الرضاع) نموّاً وتفهُّماً للنّهج الديمقراطي بدأ العراقيون الأخذ به منذ انتخابات 2005م، التي لم يُحسنوا فيها توجيه أصواتهم الوجهة الصحيحة لعدّة أسباب، من أهمها الوقوع في فخّ الطائفيين الذين نجحوا في تخويف العراقيين من بعضهم البعض، وساعدت الجماعات الإرهابية والمليشيات الطائفية في تخندق العراقيين والطوائف المذهبية والقوميات العنصرية، مما أتاح للطائفيين توجيه الانتخابات وجهة طائفية وعنصرية نالت كثيراً من النهج الديمقراطي، كما أنّ ابتعاد العرب السنّة عن العملية السياسية، وعدم مشاركة نسب كبيرة في الانتخابات، رغم جهود الحزب الإسلامي (السنِّي) وعضو جبهة الاتفاق، قلّص من نسبة تمثيل السنّة، وجعل تمثيلهم في المؤسسات الدستورية لا يعكس قوّتهم ونسبتهم الحقيقية في عدد سكان العراق، وهذا ما جعل الديمقراطية تتراجع مفسحة المجال أمام الطائفية، والأخذ بنظام المحاصصة المبني على الانتماء الطائفي والعرقي.
في انتخابات 2009م، وبعد بلوغ ديمقراطية العراق (الفطام)، تعلّم العراقيون درساً مهمّاً، فنظام المحاصصة وتدخُّل المليشيات الطائفية والجماعات الإرهابية والأحزاب العرقية، في رسم خيارات الناخبين العراقيين، فرض نظام مشوّه للديمقراطية أوصل للبرلمان ولمجالس الحكم في المحافظات، أناساً غير مؤهّلين لا يميّزهم عن غيرهم سوى انتمائهم للأحزاب الطائفية، وخدمتهم لأجنداتهم التي لا تخدم حتى الطائفة، بل أفرزت انتخابات 2005م صراعاً طائفياً أغرق العراق في قتال بين أبناء البلد الواحد خدمة لمصالح إقليمية. ولهذا فقد أظهرت نتائج انتخابات 2009 أنّ الناخبين كانوا عازفين عن الأحزاب الطائفية، وابتعدوا عن الكتل الانتخابية المتّهمة بالارتباط بقوى ودول خارج العراق، كما أنهم (عاقبوا) الفائزين في انتخابات 2005م، ولم ينجح من تلك الأحزاب إلاّ النّذر البسيط لإخفاقهم في خدمة ناخبيهم، وخدمتهم لأجندات لا يهمها بقاء العراق موحّداً، ولهذا، فبالإضافة إلى مكافأة من عملوا على إعادة الأمن إلى ربوع العراق، حصل من نافح عن وحدة التراب الوطني على أصوات الناخبين، ولهذا فقد اكتسحت قوائم (دولة القانون والنظام) التي شكّلها رئيس الوزراء نوري المالكي متحالفاً مع رموز سياسية وطنية غير طائفية قوائم الانتخابات، حيث حصلت هذه القائمة التي ابتعدت كثيراً عن الطائفية وركّزت على الانتماء الوطني، وأشاعت القانون والأمن، على المراتب الأولى في العاصمة بغداد وسبع من محافظات الجنوب التي كان الائتلاف الشيعي هو المسيطر عليها، حيث كان حزب الحكيم قد حصل في انتخابات 2005م على 55% من ممثلي بغداد والمحافظات التسع الشيعية، إلاّ أنه وفي انتخابات 2009م تراجع للمرتبة الرابعة في بغداد، ولم يكن له وجود في محافظات أخرى، كما أنّ حزب الفضيلة وجماعة الحكيم قد فقدوا قوّتهم، كما فقدوا نسبة تمثيلهم في البصرة لصالح قائمة المالكي.
أما في المحافظات السنّية، فقد تفوّقت قوائم المطلق والصحوة والعشائر والقوميين العرب والوطنيين العراقيين، مثلما حصل في الأنبار والرمادي وتكريت وديالى والموصل، وهذه المحافظات أظهرت القوة الحقيقية والتمثيل المنصف للعرب السنّة دون هيمنة للطائفيين.. أما في النجف التي كانت محافظة شبه مهيمَن عليها من قِبل جماعة الحكيم، فقد آلت إلى شخصية عراقية وطنية عربية مستقلّة هو السيد الحبوبي الذي تفوّقت قائمته الانتخابية على قوائم الأحزاب الطائفية، لتؤكد نتائج الانتخابات العراقية، أنّ الهويّة العربية العراقية لا تزال هي خيار العراقيين، وأنّ رهان من عملوا لخدمة أجندات الغرباء .. رهانٌ فاشل سيتأكد وبقوّة بعد أن تعزّز الديمقراطية في العراق، ويتعافى هذا البلد الذي أكد أبناؤه أنّ المحاصصة الطائفية لا تصلح له، وأنّ وطنهم سيبقى متماسكاً محافظاً على هويته القومية وسماته الوطنية.
jaser@al-jazirah.com.sa