Al Jazirah NewsPaper Monday  09/02/2009 G Issue 13283
الأثنين 14 صفر 1430   العدد  13283
بعد وقوف المجزرة هل تستمر المسخرة؟ (2)
د.عبدالله الصالح العثيمين

 

كان مما تضمنته الحلقة السابقة الإشارة إلى ثلاثة أمور توصل إليها، أو إلى إعلانها، قادة العرب في المؤتمر الذي عقد في الكويت، وهي تحميل الكيان الصهيوني مسؤولية عدوانه على غزة وأهلها، ووجوب السعي للوصول إلى محاكمة..

قادة ذلك الكيان أمام المحاكم الدولية المختصة لما ارتكبوه من جرائم، وتخصيص مبالغ مالية للإسهام في إعادة إعمار قطاع غزة. وقد تحدثت في تلك الحلقة باختصار عن الأمر الأول وما ينبني عليه.

أما ما يتعلق بمحاكمة قادة الكيان الصهيوني المجرمين أمام محاكم دولية فهو أمر يحتاج إلى تصميم ومسارعة إلى الإفادة عن وهج الظروف الإقليمية والعالمية، التي تكونت نتيجة عدوان قادة ذلك الكيان وما ارتكبوه من مجازر فظيعة مستخدمين كل أسلحة البطش والتدمير بما فيها الأسلحة المحرمة دولياً.

ولقد أدرك هؤلاء القادة المجرمون خطورة تلك الظروف الناتجة عن ارتكابهم جرائمهم، فسارعوا - وهم المهرة في الخداع - إلى بذل كل ما يستطيعون من جهود للحيلولة دون محاكمتهم عن تلك الجرائم. وكاتب هذه السطور ليس مؤهلاً للحديث عن النواحي القانونية، لكن ممن تحدثوا في هذا الموضوع حديثاً جيداً الأستاذ محمود المبارك، وذلك في مقالة له في صحيفة الحياة (22-1- 1430هـ) بعنوان: (عالم قانوني جديد بعد نهاية الحرب على غزة). فقد أوضح في تلك المقالة أن عدوان الصهاينة على غزة وأهلها جمع كل أنواع الجرائم في القانون الدولي، وهي الجرائم التي صنفتها المحكمة الجنائية الدولية إلى: جرائم إبادة، وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم عدوان. وفصل تفصيلاً جلياً كل ما ينطبق من تلك الجرائم المرتكبة مع كل قسم من هذه الأقسام الأربعة. وذكر أنها جرائم مكتملة أركانها مسجلة بالصوت والصورة، ومؤكدة من قبل منظمات حقوقية عربية وغربية. لكن المؤسف -كما قال- (أن الدول العربية لم تتحرك بعد تجاه بدء إجراءات دعوى ضد المسؤولين الإسرائيليين في محكمة الجنايات الدولية.. بل إن الموقف الرسمي للسلطة الفلسطينية الرافض للاستجابة لدعوة الحقوقيين الدوليين لمساندتهم في رفع إجراءات الدعوى، وعدم تحرك ثلاث دول عربية أعضاء في تلك المحكمة بأي خطوات نحو هذا يثير أكثر من سؤال).

أما كاتب هذه السطور فسؤاله هو: ألا يظن من يقفون هذه المواقف المتخاذلة أنهم بتخاذلهم يزيدون من عدم ثقة الشعوب بهم؟ ثم ألا يظنون أنهم مسؤولون أمام الله أولاً وأهم، ثم أمام التاريخ، عن هذا التخاذل المريب؟ إذا كان قادة الكيان الصهيوني المجرمون قد سارعوا إلى اتخاذ كل ما من شأنه الحيلولة دون محاكمتهم على ما ارتكبوه من جرائم فإن من الواجب الملح على القادرين من أمتنا المعنيين بقضاياها، أن يسارعوا إلى العمل الجاد مع الشرفاء في العالم لمحاكمة القادة الصهاينة على جرائمهم الفظيعة.

وأما ما يتعلق بالمبالغ المالية التي خصصها القادة العرب لإعادة إعمار قطاع غزة، فأمر له ما له من حساسية وأبعاد. كثير من الناس يتساءلون عمن ستدفع أموال الإغاثة وأموال إعادة الإعمار. ليس من اليسير تجاهل ما يعتقد الكثيرون من أن أناساً من أركان السلطة الفلسطينية لا يحق لهم أصلاً أن يبقوا في مناصبهم. ذلك أن بقاءهم فيها ليس مبنياً على رضا شعبي فلسطيني، ولا وفق نظام متفق عليه، بل هو -في أكثره- بناء على إرادة من بعض القيادات العربية مدعومة برغبة أوروبية أمريكية صهيونية. على أن الأهم من هذا أن أولئك الأركان منهم من هم غارقون في الفساد الإداري، الأمر الذي لا يدعيه خصومهم من أهلهم الفلسطينيين فحسب، بل هو مما قالته جهات غربية متعددة لا يمكن اتهامها بالتعاطف مع هؤلاء الخصوم أيضاً. قد يظن ظان بأن تلك الأموال المخصصة للإغاثة وإعادة الإعمار ستدفع إلى من يتبنون نهج المقاومة المستهدفة بالعدوان الصهيوني، وفي مقدمة هؤلاء على أرض الواقع قادة حماس. لكن هذا من الصعب. ذلك أن في نفوس بعض الزعماء العرب على ذلك النهج الشيء الكثير منذ أن قرر قادة العرب في أحد مؤتمراتهم السابقة أن السلام مع الكيان الصهيوني هو خيارهم الاستراتيجي دون أن يشيروا إلى أنه إن لم يتوصل إلى نيل الحقوق بطريقة سلمية فإن الخيارات الأخرى تبقى مفتوحة. ومع أن الرأي العام العربي والإسلامي كان رد فعله على الجرائم التي ارتكبها قادة الكيان الصهيوني ضد غزة وأهلها -والهدف الأبعد لذلك ضرب المقاومة الفلسطينية، وبالتالي ضرب قضية فلسطين برمتها- فإن من زعماء الدول العربية، مع الأسف الشديد، من كانت مواقفهم المتخاذلة، أو الممالئة بشكل من الأشكال، بعيدة كل البعد عن مواقف شعوبهم المتضامنة مع تلك المقاومة. فما العمل؟

الذي يرجوه كاتب هذه السطور أن يرتقي زعماء أمته العربية، وهم المعنيون بالدرجة الأولى، إلى ما يقتضيه العدل والإنصاف، فلا يتمسكوا بأي زعامة فلسطينية غير متفق على استمرار شرعيتها وفق رغبة الفلسطينيين أنفسهم وأنظمتهم، ولا يمارسوا ضغطاً على من يرون نهج المقاومة سبيلاً لتحرير الأرض، واستعادة الحقوق، وبخاصة بعد رؤية الجميع أن كل المفاوضات مع الكيان الصهيوني لم ينتج عنها إلا مزيد من تهويد المناطق المحتلة عام 1967م، وتمزيق لأوصالها.

إن الجميع يعلمون أن منظمة التحرير الفلسطينية لم تجتمع منذ عشر سنوات أو أكثر، وأن فصائل فلسطينية لها ثقلها، مثل حماس والجهاد، غير موجودة في هذه المنظمة. لذلك فإن مرجعيتها -كما هي الآن- محل سؤال وجيه. إن من الأليق والأنسب -إذا صدقت النوايا- أن تشكل حكومة تسيير أعمال. وينبغي أن تكون هذه الحكومة محدودة المدة، ومكونة من فلسطينيين مستقلين مشهود لهم بالنزاهة الإدارية وبعد النظر، ويكون في مقدمة أعمالها التعامل مع المسألة الإغاثية العاجلة، وبذل الجهود -بالتعاون مع الدول العربية ودعم هذه الدول دعماً جلياً- لفك الأسرى، وبخاصة المعتقلين من قبل الفلسطينيين أنفسهم لمواقفهم أو اتجاهاتهم السياسية، والأسرى الذين هم من أعضاء المجلس التشريعي الذين يعتقلهم الكيان الصهيوني.

ويكون في مقدمة أعمالها، أيضاً، تهيئة الظروف لإجراء انتخابات تشريعية نزيهة مراقبة من قبل لجنة عربية مستقلة وأناس دوليين غير متصهينين، وذلك لاختيار رئيس للدولة الفلسطينية التي يرجى قيامها الفعلي ومجلس نيابي، إضافة إلى إصلاح وضع منظمة التحرير نفسها.

أما قضية إعمار قطاع غزة المنكوب فإن من الممكن والمفضل أن يكون هناك تنسيق بين الحكومة المقترح تشكيلها من شخصيات فلسطينية مستقلة ولجنة من جامعة الدول العربية مع استحباب أن تكون رئاسة هذه اللجنة لشخصية كويتية ذات خبرة في التعامل مع المساعدات والإعمار، أو تكون مثل هذه الشخصية من أعضائها على الأقل.

بقي أن أقول في ختام هذه المقالة: إني أعتقد أن الرأي العام العربي والإسلامي، الذي يرى أن قضية فلسطين هي قضية أمته الأولى، آلمه ما ارتكب من جرائم بحق أهله في غزة كل الإيلام، وأغضبه أشد الغضب.

وإذا كان القادة العرب يألمون كما ألمت شعوبهم، وكان لديهم من الغضب ما لدى هذه الشعوب أو كثير منه، فإن الأحرى بهم أن يسارعوا إلى مساعدة إخوانهم الفلسطينيين في تنقية صفوفهم من المنغمسين في الفساد الإداري أو المتواطئين مع أعداء الأمة بشكل من الأشكال، وتكوين حكومة -كما ذكر سابقاً- من شخصيات فلسطينية مستقلة نظيفة الأيدي رزينة العقول. هل أنا أحلم؟ ربما. لكن الله على كل شيء قدير.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد