Al Jazirah NewsPaper Monday  09/02/2009 G Issue 13283
الأثنين 14 صفر 1430   العدد  13283
لا أريد أن أقنعك!!
د. عبدالرحمن الحبيب

 

منذ الندوة المثيرة التي شاركت فيها والتي أقامها نادي الرياض الأدبي بعنوان (المرأة السعودية بين الأسلمة واللبرلة) وصلني - ولا يزال - العديد من الإيميلات ورسائل الجوال، ومناقشات قصيرة وطويلة بعضها مشافهة مباشرة أو عبر الهاتف، وكان منها أناس يصرُّون على إقناعي بوسائل شتى..

كذلك ظهر العديد من التغطيات والمقالات في الصحف التي تناقش تأييداً أو معارضة لما طرحته أو ما طرحه الزميل العزيز المشارك د. محمد السعيدي. وهنا لا أريد أن أدخل في نقاش حول هذا الموضوع، فما لدي قلته في النادي وفي مقالة الأسبوع الماضي ولا أريد التكرار؛ إنما أريد أن أدخل في موضوع أهداف الحوار والنقاش بشكل عام، لأني وجدت جزءاً كبيراً من تلك النقاشات -رغم احترامي لها- تبتعد عن أهداف الحوار حسب فهمي له، وهو موضوع الإصرار على الإقناع أو الاقتناع..

أحدهم وعدني أنه إذا قابلني سيقنعني بوجهة نظره، أو حسب العبارة الشعبية:(الله بهديك غصب عليك!!).. وآخر أكَّد أنه سيهديني سواء السبيل إذا أنا (طوّلت بالي عليه) هكذا قال.. أحدهم ذكر أن منطقي فاسد فلسفياً وأن الصحيح هو ما قاله بن تيمية في كذا وكذا، وأعطاني دروساً في المنطق وأن عليَّ أن أغير منطقي.. أحدهم أوضح لي أني أمارس التلاعب بالألفاظ وأنتقي من النصوص (خاصة المقدسة) ما يناسبني، وأن في ذلك ضلال وتضليل، وطالبني بتقوى الله وتذكُّر عذاب القبر، وأن أغير كلامي.. البعض اجتهد وأراد هدايتي عبر الإنترنت وأرسل لي مقطوعات جدلية في كتب التراث السلفية لأعلام أجلاء معروفة أراؤهم لطلبة الجامعات السعودية، وكأنني قادم من السويد أو اليابان لا أعرفهم..

أحد الإخوة الكرام الذين حضروا الندوة سأل لماذا لم يقتنع الليبراليون حتى الآن بوجهة نظر الإسلاميين رغم كل مؤتمرات الحوار الفكرية التي أقامها مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني؟ وما فائدة هذه الحوارات إذا كان الطرف الآخر لم يقتنع بعد؟

لا أظن أن الهدف من أي حوار بين فرقاء مختلفين هو الإقناع والاقتناع، فتلك عملية تأخذ وقتاً لا يمكن لحوار أو مؤتمر أن ينجزها. وقد يكون الإقناع مستحيلاً مهما طال الزمن في حالات تعارض المنطلقات ومصادر المعرفة ومعايير إصدار الأحكام (الصواب والخطأ) والأهداف والمصالح. إذن، وكما سألني أحدهم: ما فائدة الحوار؟

من بين فوائد عديدة، فإني أرى أن التفهم والاحترام المتبادل والتقارب والاستفادة من أفكار جديدة ومن طرق تفكير جديدة هي أهم الثمار التي يمكن أن نجنيها من الحوار بين الأطراف المختلفة. التفهم يعني التوضيح بأن الطرف الآخر له منطلقات مختلفة هي طريقته في التفكير وأدواته الفكرية ومصادره المعرفية ومبرراته، وله أهداف يمكن الاستماع إليها ومعرفة مسوغاتها، وله مصالح من المهم أخذها بالاعتبار..

هذا التفهم التوضيحي يلغي كثيراً من الأوهام التي تملأ أذهاننا عن الآخر الذي لم نعتد الحوار معه، بل اعتدنا الحوار عنه كمخالف نزق أو ضال في أحسن الأحوال، وكمخالف شرير في أسوء الأحوال.. فطرف يرى الآخر كافراً ينبغي نبذه، وطرف يرى الآخر متخلفاً ينبغي إلغاؤه!

لا نتوقع من أصحاب مذهب معين أن يهجروا مذهبهم وينتقلون إلى مذهب آخر بسبب حوار، بل نتوقع أن يتفهم أصحاب كل مذهب ظروف وطريقة تفكير ومصالح وهموم وقضايا أصحاب المذهب أو الطائفة أو الفصيل الآخر..

لذلك وكما رأينا في الحوارات بين أطراف مختلفة منذ بضع سنين، سواء تلك التي أقامها مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، أو تلك المنتشرة في أماكن أخرى كالأندية والفضائيات والديوانيات والصحف..إلخ، أن البدايات كانت صعبة ومحرجة وحساسة وبها لغط وعصبية.. وثمة أناس رفضوا الحوار أصلاً، لكن مع مرور الوقت، أصبح أغلب الذين رفضوا الحوار يتسابقون إليه، حين أحسوا بجدواه ومنفعته، وحين شعروا أن الأطراف الأخرى لها قضايا وأفكار جديرة بالاهتمام، ولديها موقفها المخلص للمصلحة العامة.. وبهذا اتضح أن الأطراف عموماً تبحث عن الصواب وعن ما ترى أنه الحقيقة وعن ما تؤمن أنه يحقق المصلحة العامة، وفقاً للزاوية التي ترى بها الأوضاع ووفقاً لظروفها.. وأصبح بإمكان كل طرف أن يتفهم ويتسامح ويعذر ويقدِّر أفكار وأعمال الطرف الآخر.. وبعد هذا التفهم ومعه نصل إلى الاحترام المتبادل، وبأن الساحة تتسع للجميع..

وثمة مسألة يشار إليها في هذا السياق، أن البعض يعتقد أن هذا الاحترام مزيف طالما كل فريق يعتبر نفسه يملك الحقيقة الناصعة، والآخر لا يملك غير الضلال المبين. والإشكالية هنا هي في طريقة التفكير هذه، ولكن هذه الطريقة تضعف تدريجياً بالحوار، حيث الجدل الفكري المفتوح يعمل على تفكيك القناعة بامتلاكنا الوحيد للحقيقة المطلقة، والقبول بتعدد الطرق والمصادر لما نسميه صواباً أو حقيقة.. وطريقة التفكير هي من أهم الإشكالات التي تعترض ما قبل الحوار، خاصة عندما تكون هناك طريقة تفكير سائدة مهيمنة لم تعتد على سماع طرق التفكير الأخرى..

ولو أخذنا مثلاً اختلاف طريقة التفكير بين السلفي والحداثي، فإني دائماً أتذكر ما حصل في إحدى الأندية الأدبية قبل نحو عشرين عاماً، حين انتقد أديب حداثي آخر تقليدياً قائلاً: إن مشكلتك أن لك رأياً فكرياً مسبقاً وجاهزاً؛ فرد عليه التقليدي: إن تلك مفخرة وليست معيبة! والشاهد هنا، أن الحداثي يرى أن الرأي ينبغي أن يتشكل وفقاً لتفاصيل الحالة المعروضة للنقاش قبل إطلاق الأحكام الجاهزة، بينما يرى التقليدي أن المهارة وسعة الاطلاع تمكنك من تجهيز الأحكام مسبقاً..

وبالمقابل أتذكر حين انتقد أديب تقليدي آخر حداثياً قائلاً: إن مشكلتك أن تدمِّر أساليب اللغة، فرد عليه الحداثي: إن ذلك فخر لا أدعيه! والشاهد هنا، أن التقليدي يرى أن هناك نسقاً سليماً مسبقاً ينبغي الالتزام به وعدم الخروج عليه، وأن الخروج عليه يعني ركاكة وضعفاً وفشلاً، بينما يرى الحداثي أن الأنساق ينبغي أن تتغير وفقاً لتغير المراحل، وأن المبدع الرائد هو من يبادر لهذا التغيير..

إذن، طريقة التفكير ومنهجيته وأدواته المستخدمة تؤدي إلى طريقة في الحُكم على الأشياء، واختلاف هذه الطريقة يؤدي إلى الاختلاف في النتائج والأحكام والآراء. وتفهمنا لاختلافنا في طريقة التفكير يؤدي إلى تفهمنا في اختلاف وجهات نظرنا..

وأخيراً، أقول لكل من تحاور وناقش معي: لا أريد أن أقنعك، وليس الموضوع أن تقتنع أو لا تقتنع، يهمني أن تتفهم طريقة تفكيري، ولك الخيار أن ترفض أو تقبل أو ترفض جزءاً وتقبل آخر، كما يهمني أن أتفهم طريقة تفكيرك، ولي الخيارات نفسها. المهم أن الأطراف تتفهم وتحترم بعضها بعضاً وتتقارب تعاونياً لمصلحة الجميع.. فالوطن للجميع، وهذه المظلة الوطنية والإنسانية الفكرية تقربنا من بعضنا مهما اختلفت أفكارنا..



alhebib@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد