ياسر الصالح
قمت مؤخراً بإجراء دراسة (مستقبلية) حول مستقبل الطاقة المتجددة في المملكة، وقد أسهم في هذه الدراسة 35 خبيراً من شتى أنحاء العالم من أجل رسم (سيناريوهات) لمستقبل قطاع الطاقة في وطننا الحبيب حتى عام 2050م؛ من أجل التنويع في موضوع الطاقة بأخذ بعد جديد. لن أتطرق إلى نتائج هذه الدراسة العلمية، ولكن لعلي أسلط - في عجالة - الضوء على ماهية الدراسة المستقبلية وأهمية تفعيلها في وطننا العربي.
وبما أننا قد عرفنا الماضي ووقائعه، وها نحن اليوم نعيش أحداث الحاضر وما تمثله من تحديات، يمثل المستقبل المساحة الزمنية المجهولة التي سيظل الغموض يكتنفها حتى نعيش لحظاته. وقد سعت فئات كثيرة من البشر - على مر العصور - إلى البحث عن طرق تساعدها لتنبؤ أحداث المستقبل لأغراض عديدة، فلجأ البعض إلى الكهنة الذين يدّعون معرفة غيب المستقبل. ورغم معارضة هذه المنهجية للدين الإسلامي فما زالت بعض وسائل إعلامنا - حتى يومنا هذا - تنقل الأخبار المبنية على التنجيم وقراءة الأبراج والأفلاك وغيرها، مغررين بذلك الإنسان القلق الذي يسعى لطمأنة ذاته، ولو كان ذلك عن طريق الدجل والشعوذة. أما في الأوساط العلمية، فقد كان العقل البشري المفكر حتى العهد القريب يعتمد اعتماداً أساسيّاً على منهجية التنبؤ العلمي، وهو أسلوب إحصائي (رياضي) يتخذه المحللون لاستقراء المستقبل بأكثر دقة ممكنة على افتراض أن المستقبل سيمثل امتداداً لأحداث الماضي.
ومع الإقرار باستحالة صدق مثل هذه الاجتهادات الإحصائية التي تفرز تنبؤات مستقبلية محددة، ولا سيما في عصر بات يشهد تغيرات عديدة وتقلبات مفاجئة على مختلف الأصعدة، لم يلبث المخططون المعاصرون أن يتخلوا عن فكرة التنبؤ بمعناه النبوئي الضيق، وأصبح جل تركيزهم ينصب على محاولة التعرف على الاحتمالات المختلفة (أي البدائل المستقبلية) التي قد تنطوي عليها التطورات المستقبلية. وتعد السيناريوهات من أكثر التقنيات المستخدمة في هذا المجال، حيث يمكن اعتبار السيناريو كوصف لوضع مستقبلي محتمل، أكثر من كونه عرضًا لتنبؤ مستقبلي مؤكد.
وتقوم هذه السيناريوهات - المبنية غالبًا على رأي عدة خبراء مختصين في موضوع الدراسة - على عرض عدد من الاحتمالات الممكنة لتطور قضية ما، مع توضيح لملامح المسارات والتبعات التي يمكن أن ينجم عنها كل سيناريو، ومن ثم يمكن وضع السياسة المناسبة من أجل الاستفادة القصوى في حال وقوع أي من أحداث السيناريوهات المحتملة، وفي أحيان أخرى يتم صياغة سيناريو لوضع مستقبلي مرغوب فيه، ومن ثم يتم تقديم توصيات لصُنَّاع القرار بخصوص السياسيات والقرارات التي ينبغي اتخاذها من الآن للوصول إلى هذا الوضع المرغوب فيه بعد فترة زمنية محددة.
وتعد شركة (شل) النفطية من الشركات الرائدة في رسم السيناريوهات منذ منتصف الستينيات الميلادية، وتعتمد اليوم أغلب الدوائر الحكومية والشركات الكبيرة في الغرب على استخدام السيناريوهات المستقبلية كوسيلة تخطيط أساسية، أما لو استعرضنا تطبيقات الدراسات المستقبلية في عالمنا العربي فسنلاحظ قلة عددها من جهة، وضعف مساهمتها في التأثير على التخطيط الاستراتيجي من جهة أخرى؛ ففي حين تمنح عدة جامعات غربية درجة الدكتوراه في تخصص الدراسات المستقبلية، فشلت مناهجنا العربية في إعطاء مثل هذه التخصصات الاهتمام المطلوب، على الرغم من وجود عدة محاولات لنقل وتوطين التقنيات العلمية المستقبلية في مصر وبعض دول الخليج مثلاً، إلا أننا لا نزال نشكو من قلة عدد المختصين في مجال الدراسات المستقبلية وانعدام الثقافة المستقبلية في أغلب مجتمعاتنا، وهنا تكمن أهمية تكثيف عقد المؤتمرات والدورات التدريبية وكذلك منح وسائل الإعلام لهذا المجال اهتماماً أكبر.
إن صياغة ودراسة السيناريوهات المستقبلية تعد من أهم أدوات تطوير الأداء المستقبلي التي قد تستفيد منها حكوماتنا وشركاتنا العربية، حيث يمكن توظيفها في الوطن العربي في مجالات لا حصر لها وعلى مستويات مختلفة؛ فمثلاً يمكن دراسة المستقبل الاقتصادي في دولة ما أو منطقة عربية معينة أو على مستوى العالم العربي ككل؛ فهي أداة فعالة للتخطيط الاستراتيجي؛ لأنها تساهم - بعد مشيئة الله - في الوصول إلى مكانة مرموقة في عالم الغد؛ فوضع الخطط والرؤية المستقبلية وعدم الانتظار السلبي للأحداث حتى تقع، يساهم في تقليص احتمالات خسائر المستقبل إلى أبعد تقدير، فكما قال العالم الفرنسي لويس باستور: الحظ يحبذ العقول المستعدة أو Chance favours the prepared mind ويُروى أنه سُئل العالم الشهير ألبرت آينشتاين ذات مرة: لماذا تبدي اهتمامًا بالمستقبل؟ فرد قائلاً: ببساطة، لأننا ذاهبون إلى هناك!