استبشر الوسط الاقتصادي خلال الأسبوع الماضي بموافقة مجلس الوزراء على الاستراتيجية الوطنية للصناعة حتى عام 2020م، وتؤكد وزارة التجارة والصناعة بأن تلك الاستراتيجية مرتبطة بالاستراتيجية الحالية والبعيدة المدى للاقتصاد الوطني والتي حددت أنه سيكون لدى المملكة بحلول عام 2025م اقتصاد متنوع قادر على توفير فرص العمل وتحقيق أعلى معدلات الرفاهية لأبناء المملكة، وهذا جهد مشكور يحسب لمقام الوزارة رغم تأخرها كثيراً في تبني مثل هذه الاستراتيجيات القصيرة المدى والتي تجد بالتأكيد كل الدعم والاهتمام والحرص من لدن خادم الحرمين الشريفين، فهو - أيده الله - رجل الاقتصاد الأول في المنطقة. ولكن حقيقة من أكثر الأشياء التي لفتت انتباهي في الاستراتيجية الوطنية للصناعة الجديدة ليس محاورها الثمانية أو أهدافها الأربعة فهي ليست بالجديدة للعارفين ببواطن الأمور والمتخصصين في استراتيجيات تطوير الاقتصاد السعودي، فكم من الاستراتيجيات الصناعية تبنتها وزارة الصناعة (السابقة) خلال العقود الثلاث الماضية والنتيجة واحدة (لم ينجح أحد)، ويجب التأكيد هنا على أن أسباب الفشل لا تنسب إلى وزارة الصناعة السابقة أو وريثتها الشرعية (وزارة التجارة والصناعة) وحدهما بقدر ما تنسب إلى جهات عدة ليست هي محور مقالتنا هذه. أعود للاستراتيجية الوطنية للصناعة وأقول إن أكثر ما شدني فيها هو الوقت الذي استغرق في إعدادها والذي جاوز السنة والنصف ويتبقى لإنجاز لائحتها التنفيذية ستة أشهر أخرى، وهذا يعني أنه بافتراض انتهاء الوزارة من إعداد اللوائح التنفيذية للاستراتيجية خلال الوقت المحدد فعلاً تكون الاستراتيجية قد استغرقت سنتين بالتمام والكمال لإعدادها في عصر لا مكان فيه إلا لمن يسابق الزمن ويقيس الأداء بحجم المنجزات على أرض الواقع، حيث تتسابق الدول (زمانياً) في فضاء الإبداع والابتكار الواسع والتقنية المتسارعة وإحداث ثورة علمية متواصلة في المجال العلمي التطبيقي بعيداً عن أية استراتيجيات يستغرق إعدادها سنوات ناهيك عن السنوات الطوال المطلوبة لتنفيذها. وهذا لا يلغي الدور الحالي الكبير الذي تقوم به هيئة المدن الصناعية والتي يتبعها ما يقارب من 11 مدينة صناعية جاهزة في مختلف مدن المملكة الرئيسة بخلاف المدن الأربع الجديدة، وبخلاف مدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين اللتين تعتبران مفخرة اقتصادية سعودية، حيث الصناعات الهيدروكربونية والصناعات ذات الاستخدام المكثف للطاقة والتي تتمتع سابك فيها بميزة نسبية. وليس سراً أن نصيب الصادرات غير النفطية السعودية حالياً لا يتجاوز نسبة الـ10% من إجمالي الصادرات وبقيمة إجمالية تتجاوز الثمانين مليار ريال، وليس سراً كذلك حجم الدعم المادي والتشريعي الكبير الذي حظي به (ولا يزال) القطاع الصناعي الخاص من قبل حكومة خادم الحرمين الشريفين - أيده الله - والحكومات السعودية السابقة، حيث يعتبر القطاع الصناعي خياراً استراتيجياً وطنياً لا يقبل القسمة على اثنين. ولكنه في السنوات القليلة الماضية أصبح يقبل القسمة على أي عدد بعد أن بدأت تتراجع أهمية هذا القطاع ولم يعد هو الخيار الاستراتيجي الوطني الأول للكثير من الدول وخصوصاً ذات الاقتصادات الناشئة، وأصبحت أوروبا وهي القارة التي خرج من رحمها الكثير من الصناعات المتنوعة عبر العصور وهي القارة الأكثر تطوراً صناعياً حتى عهد قريب، نقول أصبحت تنعت حالياً بالقارة ذات الاقتصاد العجوز. لست أبالغ حينما أقول إن الاقتصاد الصناعي (التقليدي) وخلال فترة زمنية ليست بعيدة سوف يتلاشى دوره كقطاع قائد للتنمية الاقتصادية المحلية في العديد من الدول الصناعية نفسها تمهيداً لوأده بالكامل، حيث ستكون الكلمة الفصل في هذا الشأن هي الطاقة البديلة (النظيفة) ومدى توافرها على أساس تجاري. ولا أعتقد أنني بحاجة للتذكير بالدور العالمي الكبير الذي يقوم به نائب الرئيس الأمريكي السابق في حكومة بيل كلينتون، السيد آل جور، وما فوزه (بالمشاركة) بجائزة نوبل للسلام للعام 2007م إلا دليلاً قاطعاً على رغبة المنظمات الدولية في المحافظة على البيئة وتأمين سلامة طبقة الأوزون من الاحتباس الحراري والتي تسبب الاقتصاد الصناعي في تدميرها خلال العقود القليلة الماضية. ويعتبر وجود حكومة ديموقراطية على رأس السلطة في واشنطن حالياً أكبر داعم معنوي لجماعات مناصرة البيئة ومكافحة الاحتباس الحراري، خصوصا إذا ما قام الرئيس أوباما بالتوقيع على معاهدة بروتوكول كيوتو والتي رفض الرئيس الأمريكي السابق توقيعها بدعوى أنها سوف تلحق ضرراً كبيراً بالاقتصاد الأمريكي (الصناعي) والذي سيتعرض للتحجيم بسبب تلك المعاهدة.
ويجب أن يكون واضحا للقارئ الكريم بأن هذه المقالة لا تدعو لأن يدير الاقتصاد السعودي ظهره للاقتصاد الصناعي بشكل كامل، ولكنها تلفت النظر إلى أن الاقتصاد الصناعي (التقليدي) كخيار استراتيجي تنموي قد أصبح خارج الزمن، وقد بدأت فعلاً الكثير من الدول الصناعية (التقليدية) الابتعاد عنه شيئا فشيئا ووفق عملية تحول ذكية لما يعرف بالاقتصاد المعرفي. ولعله من المناسب أن أورد هنا مقتطفات من كلمة كان قد ألقاها معالي وزير التجارة والصناعة حينما كان وقتها وزير دولة وعضو مجلس وزراء وذلك في المؤتمر الأول للاقتصاد المعرفي بفندق هيلتون جدة تحت عنوان (نحو اقتصاد معرفي)، وقد أشار معاليه في كلمة رائعة وشافية إلى حجم التحديات والفرص الاقتصادية العالمية العديدة في عالمنا اليوم، إذ لم يعد الأداء التقليدي لاقتصاد أي دولة يكفي لضمان مركز تنافسي في الأسواق العالمية حتى وإن امتلكت ثروة ضخمة من الموارد الطبيعية، فالمزايا التنافسية في ظل العولمة الاقتصادية تعتمد على تفوق العنصر البشري سواء في تعليمه أو تطويره وابتكاراته، وأشار معاليه بأن دولاً مثل الصين والهند وكوريا والبرازيل وماليزيا وجنوب إفريقيا قد تبنت مسار المعرفة في أدائها الاقتصادي فركزت على تطوير رأس المال البشري بكل جوانبه ليشكل بدوره ثروة معرفية هي محور تنميتها الاقتصادية، وختم معاليه كلمته الشافية تلك بالحاجة إلى قفزات للدخول في الاقتصاد المعرفي. وأنا أتساءل هل الاستراتيجية الوطنية للصناعة والتي تقودها وزارة التجارة والصناعة هي من سيقودنا إلى الاقتصاد المعرفي؟ والذي بدأت خطوات الدخول له لدينا منذ سنوات قليلة وبقيادة مباركة من خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - وذلك عن طريق تقديم الدعم المادي الكبير لجهات حكومية فاعلة طغى عليها الجانب التعليمي (وزارة التعليم العالي وجامعتا الملك سعود والملك عبدالله للعلوم والتقنية) والتقني (هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية) والتدريبي (المؤسسة العامة للتدريب والتقنية) وفي غياب كامل وغير مبرر لمجلس الغرف السعودية. ولكم كان سيسعدني وجود رجال أعمالنا التجار منهم والصناعيين في قلب عملية التحول للاقتصاد المعرفي فهم بخبراتهم الثرية وإمكاناتهم الكبيرة يستطيعون تقديم الشيء الكثير كمنظرين ومستثمرين لدعم عملية التحول للاقتصاد الجديد، فالفرص الاستثمارية في هذا الاقتصاد كثيرة وواعده وذات قيمة مضافة، حيث يتميز الاقتصاد الجديد بالمرونة والاستدامة فهو اقتصاد متجدد لأنه يعتمد على سلاح المعرفة.
وقد سارعت العديد من دول العالم وبصفة خاصة الخليجية بإعادة هيكلة اقتصاداتها بإقرارها (خريطة طريق) للصناعات المعرفية والتي يقدر حجم سوقها حالياً بأكثر من 100 مليار دولار سنوياً. وقد حققت هذه الصناعات نمواً مضاعفاً خلال السنوات القليلة الماضية والمستقبل يحفل بالكثير من البشائر للدول التي تبنت فعلاً استراتيجيات التحول لاقتصاد المعرفة. والآن هل فهمنا لماذا كانت أول آية نزلت على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم هي أمر بالمعرفة (اقرأ) وهو فعل يحث على أهمية المعرفة منذ أربعة عشر قرناً ولم نأخذ به إلا حديثاً وفي عهد رائد التنمية الاقتصادية الحديثة ورجل الاقتصاد الأول الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله. فدعونا نبدأ من حيث انتهى الآخرون بدلاً من العودة إلى نقطة الصفر أيها الأحبة.
أستاذ العلوم الاقتصادية والمالية المشارك بجامعة الملك سعود
alhosaan@gmail.com