في منتصف القرن الماضي بدأت الهندسة بفروع (أقسام) كبيرة ورئيسة، وهي الهندسة المدنية، الهندسة الكهربائية، والهندسة الميكانيكية، ومع الوقت أصبحت تقليدية، أي من الصعب (وقلما) تجد كلية هندسة تخلو من هذه الأقسام..
وهذه الفروع ازدادت تشعباً على مرّ السنين وظهرت فروع هندسية جديدة تماماً كهندسة الحاسب الآلي والهندسة النووية والهندسة الوراثية وهندسة المواد وهندسة النقل وغيرها، حتى تحوَّل قسم الهندسة المدنية، على سبيل المثال، في بعض الجامعات إلى كلية نظراً لكثرة فروعها.. إن علم الهندسة، بدايةً من الآلة القديمة.. ومروراً بمرحلة الثورة الصناعية في بداية القرن الماضي حتى التطور التقني المذهل الحديث المتمثل في ثورة الاتصالات وتقنية المعلومات, هو رائد هذا العصر وإحدى الركائز المهمة لاقتصاد أي دولة، وهو المحرك الأساس للتطور الصناعي والتقني، وخير دليل على ذلك هو ما وصلت إليه دول العالم المتقدم في الغرب والشرق.. إلا أن المتابع للهندسة وما يطرأ عليها من تغيير في القرن الواحد والعشرين يُلاحظ أن هناك اتجاهات حديثة في التخصصات الهندسية بدأت بوادرها تظهر على الأفق ولو بنطاق ضيق وهو دمج الفروع التقليدية والمتشعبة منها لتكون فروعاً حديثة مغايرة ومعاكسة لما تم خلال القرن الماضي لتفي بمتطلبات حاجة السوق والعولمة، أي أن التفرع أصبح تجمعاً والمهندس المتخصص في مجال معين أصبح مهندساً متخصصاً في عدة مجالات في نفس الوقت.. ومن هذه التخصصات، على سبيل المثال، تخصص الميكترونيكيس (Mechatronics) الذي هو خليط لمجموعة تخصصات هندسية تقليدية (الكهربائية والميكانيكية والحاسب... إلخ)، وتخصص النانو (Nano) الذي أيضاً يجمع بين عدة تخصصات (الفيزياء، الإلكترونيات، الكيمياء، الأحياء، والطب... إلخ)، والتقنية الحيوية (Biotechnology) الذي يجمع (الهندسة، العلوم، الطب، الزراعة... إلخ)، وتخصص علوم المواد الذي يجمع عدة تخصصات هندسية، وتخصص الاتصالات اللا سلكية الذي لا يخفى على أحد أهميته ونحن، في عصر ثورة الاتصالات، نتعامل مع الجوال والإنترنت اللا سلكي وأجهزة تحديد المواقع (GPS)... إلخ.
إن التحديات في التعليم الهندسي والتقني في ما يُسمى عصر عولمة السوق يحتم علينا النظر بالتعليم الهندسي التقليدي وإعادة صياغة أقسام الهندسة التقليدية ومحتوياته وأهدافه ليتلاءم مع متطلبات السوق العالمي وتحدياته ولننافس البرامج الهندسية في الدول المتقدمة الأخرى.. إن النظرة الحديثة لمهندس المستقبل، خلاف النظرة التقليدية الحالية التي تعتمد على خريجين يختزنون كماً هائلاً من المعلومات في عقولهم، تركز على المهارات والعمل الجماعي والإبداع والتحكم والتأثير في محيطه والقدرة على فهم لغة العصر واستيعاب التقدم الهندسي والتقني الهائل والمتسارع وتوظيفه وتطبيقه وتطويره بما يتوافق مع متطلبات عصر العولمة الاقتصادية.
ونحن في عهد رائد التعليم العالي الحديث، خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين -حفظهما الله-، عهد تأسيس جامعات جديدة متقدمة تركز على الجوانب العلمية والتطبيقية خصوصاً في مجالي الهندسة والطب.. إن عدد كليات الهندسة - حكومية وأهلية - تجاوزت عشرين جلها في الجامعات الجديدة.. ومن هذا المنطلق، أرى أن تتبنى هذه الاتجاهات الحديثة في كليات الهندسة الجديدة.. أو أن تكون برامج (مسارات) تحت الأقسام التقليدية في كليات الهندسة القائمة، ومن ثم تصبح أقساماً منفصلة تماماً فيما بعد.. ولا شك أن هذه الأقسام أو البرامج الحديثة سيكون لها نتائج إيجابية على اقتصاد وطننا الحبيب وتجعلنا، بعد عون الله، في مصاف الدول المتقدمة صناعياً وتقنياً ودعماً لما يُسمى بالاقتصاد المبني على المعرفة، وتوفر يد هندسية عاملة ذات كفاءة عالية مواكبة لمتغيرات هذا العصر في مدننا ومصانعنا الاقتصادية الضخمة.. لذا، أرى أن لا ننتظر نصف قرن حتى تثبت جدوى الاتجاهات الحديثة في علم الهندسة ومن ثم نطبقها، أي نبقى نصف قرن متأخرين في علم الهندسة عن العالم المتقدم تقنياً وننتظر حتى تصبح هذه التخصصات الحديثة تقليدية ومن ثم نطبقها.. لذا، أرى، يتوجب التعاون بين وزارة التعليم العالي والجامعات ووزارة الخدمة المدنية وهيئة المهندسين والمؤسسات العامة والخاصة ذات العلاقة لدعم هذا التوجه والعمل على الاستيعاب الأمثل لمخرجات هذه الأقسام الحديثة من أجل صناعة وطنية منافسة ومواكبة للمتغيرات العالمية.. هذه وجهة نظري، والله من وراء القصد.
عميد كلية الهندسة - جامعة الجوف
Hamed_100@hotmail.com