كنت قد كتبت مقالة والمذبحة التي كان يرتكبها قادة الكيان الصهيوني ضد غزة وأهلها على أشدها. وكان عنوان تلك المقالة (مذبحة غزة وأمريكا الصديقة). وقلت في مستهلها: إن هذه المقالة قد لا تنشر إلا ومذبحة العدوان الإجرامي...
|
...الصهيوني ضد غزة قد توقفت. ومما ورد فيها دعوة لله أن يزيل الغشاوة عن عيون من في أيديهم أن يفعلوا شيئاً إيجابياً ولم يفعلوه ليكفّروا عن كل ذنب بحق أمتهم اقترفوه. وكان مما أشرت إليه باختصار مواقف زعماء أمريكا المتصهينين المتطابقة مع مواقف الصهاينة، قلباً وقالباً. وكان آخر تلك المواقف موقفهم مع الصهاينة في عدوانهم على غزة، معنوياً وسياسياً وتسليحياً ومالياً، إضافة إلى اختتام ذلك بتوقيع اتفاق معهم للحيلولة دون وصول أي سلاح إلى المقاومة الفلسطينية.
|
والمتابعون لما كان يجري رأوا بأعينهم كيف ارتكب المجرمون من الصهاينة ما ارتكبوا من جرائم، مستهترين بالعرب والمسلمين أولاً، وغير مكترثين بالعالم كله ومنظماته الدولية ثانياً.
|
وكان أن توقفت المذبحة، أو المجزرة- فعلاً- قبل نشر المقالة المشار إليها سابقاً بيوم واحد، وذلك بعد أن رأى مجرمو الحرب من الصهاينة أن لا بد من إيقافها لأسباب عديدة؛ منها ما هو واضح للكثيرين، ومنها ما هو غير واضح لهم. فمما هو واضح منها أن مواصلة العدوان يمكن أن يضطر قوات المعتدين إلى دخول أحياء بلدان القطاع، وبخاصة مدينة غزة. وفي هذا الدخول ما فيه من تعريض جنود الصهاينة لخسائر بشرية مؤلمة أشد الإيلام لمجرميهم الذين كانوا يبنون آمالاً كبيرة في أن جريمتهم ستكون رصيداً لهم في الانتخابات القادمة.
|
ومما هو واضح أيضاً، من تلك الأسباب أن مواصلة العدوان سيزيد من غضب شعوب العالم على الصهاينة، ويضع أنصارهم والمهادنين لهم غير الواقفين أمام جرائمهم موقفاً يحتّمه الواجب الإنساني في موقف حرج أمام تلك الشعوب.
|
وليس على أمتنا وبال أشد عليها من أولئك المسوّلة لهم أنفسهم حتى تعاونوا مع أعدائها بشكل من الأشكال، ورحم الله الشاعر النجدي المجيد، عبدالرحمن البواردي، الذي عبّر عن خطر المتعاونين مع الأعداء بقوله:
|
ديرةٍ لي بلاها اليوم بِرْدَاها |
كيف تبرا البلاد وعيبها فيها؟ |
واجتمع القادة العرب في الكويت في مؤتمر قمة طابعه اقتصادي أساساً، لكن ما ارتكب في غزة من جرائم فظيعة، وأثار غضب الشرفاء في المجتمعات في جميع أرجاء العالم، حتّم أن يكون موضوعاً للنقاش والتداول. وكان ذلك الاجتماع لم يتم إلا بعد أن أوقف الصهاينة مجزرتهم البشعة التي استمرت وتيرتها المدمرة متصاعدة أكثر من ثلاثة أسابيع. وبدا، وكأن لسان حال بعض أولئك القادة يقول: (تعست العجلة). بل إن من المرجّح جداً أن منهم من لم يرتح - لسبب يعرفه من يعرفه وقد يجهله أمثالي- لما ورد في كلمة خادم الحرمين الشريفين من عبارات تدل على العزم في اتخاذ موقف حازم هو الأليق به وبأمثاله. وهو الأمر الذي سُرّ به المخلصون لقضايا أمتهم.
|
وكان مما حدث في مؤتمر الكويت أن القادة العرب حمّلوا الكيان الصهيوني مسؤولية عدوانه الإجرامي على غزة وأهلها، وأنهم أوجبوا السعي للوصول إلى محاكمة قادة ذلك الكيان أمام المحاكم الدولية لما ارتكبوه من جرائم، وأنهم خصصوا مبالغ مالية جزلة للمساهمة في إعادة إعمار قطاع غزة. وحيّز المقالة لا يتيح إلا تعليقاً مختصراً على جوانب من هذه الأمور الثلاثة.
|
الأمر الأول: تحميل الكيان الصهيوني مسؤولية عدوانه الإجرامي على غزة. وهذا هو الصحيح. بل إن مذبحة غزة الأخيرة ليست إلا حلقة من سلسلة جرائم حرب صهيونية ارتكبها الصهاينة قبل إقامتهم كيانهم على أرض فلسطين، وبعد إقامة هذا الكيان. فمن حلقات تلك السلسلة الإجرامية قبل إقامة الكيان الصهيوني مذبحة دير ياسين. ومن حلقاتها بعد إقامة هذا الكيان مذبحة مدرسة بحر البقر في مصر، وجعل مجنزراتهم تمشي على أجساد الأسرى المصريين، عام 1967م، تطحنهم طحناً، وإشراف قادتهم على مجزرة صبراً وشاتيلا، وارتكابهم لمجزرة قانا مرتين، ومذبحة جنين المشهورة، ومذبحة المسجد الإبراهيمي، إضافة إلى اغتيالات أعداد من قادة الفلسطينيين. وارتكاب تلك الجرائم أملته، وتمليه، عقيدة راسخة لم ينقطع التعبير عنها قولاً وعملاً.
|
ومن أهم أسسها إباحة قتل الفلسطينيين وغيرهم من العرب والمسلمين. وكان آخر من أوضحوا ذلك الحاخام مردخاي إلياهو، الذي يعد المرجعية الدينية الأولى في دولة الصهاينة، وذلك في حديثه عن مجزرة غزة الأخيرة. فقد قال في رسالة وزعت على المعابد اليهودية، وبعث بها إلى رئيس وزراء الكيان الصهيوني وبقية قادة هذا الكيان مفادها أن العدوان على المواطنين الفلسطينيين الأبرياء أمر شرعي كما ورد في سفر التكوين الموجود في التلمود. وأما التعبير عن تلك العقيدة عملاً فقد سبقت الإشارة إلى شيء منه متمثل في المجازر والمذابح المرتكبة قبل إقامة الكيان الصهيوني وبعد إقامته.
|
وتحميل قادة العرب الكيان الصهيوني مسؤولية ما حدث، وارتكب، في غزة ينبني عليه أمران. أولهما أنه يجب على من في أيديهم مقاليد الأمور من العرب أن يكونوا جادين في ملاحقة ذلك الكيان ليجبر على دفع التعويضات اللازمة المستحقة مقابل ما ارتكبه من تقتيل وتدمير. فالجاني يجب أن يدفع ثمن جنايته.
|
هذا ما تقره الأديان والأعراف والنظم الدولية. وهذا مضمون ما قاله الملك عبدالعزيز - رحمه الله- للرئيس روزفلت حين أوضح له بأن من فعل باليهود ما فعل هو الذي يتحتم عليه دفع الثمن، لا العرب الأبرياء، وما زال الألمان يدفعون إلى الصهاينة ثمن ما جناه هتلر بحق أولئك اليهود. وما ارتكبه الصهاينة من اليهود بحق الفلسطينيين يجب أن يدفعوا ثمنه.
|
أما الأمر الثاني المبني على تحميل قادة العرب في مؤتمرهم في الكويت الكيان الصهيوني مسؤولية ما حدث، وارتكب في غزة، فهو رد ضمني على أولئك الذين أبت أهواؤهم إلا أن تتجاهل الحقائق، فراحوا يطلقون أعنة قدراتهم، لفظاً وكتابة، لترديد آراء من يقارنها بما يقوله الصهاينة ويرددونه يجد أنها لا تختلف عنها مضموناً، بل قد تتفق معها، أحياناً، كلمات وعبارات. على أن الباطل الفاضح لن يصمد أمام الحق الواضح. والله المستعان على ما تصف ألسنة المتجاهلين للحقائق وأقلامهم.
|
|