كنت أحد الذين استغربوا ظهور العنف والجريمة المنظمة في مجتمعنا، ثم خروجه بتلك الصورة المروعة، التي راح ضحاياها أبرياء، لم يكن لهم لا ناقة ولا جمل في مجرى الأحداث العالمية، أو في احتلال فلسطين، وفي غزو العراق، ومنذ ذلك اليوم وأنا أحاول كمواطن فهم تلك الحالة التي أصابت المجتمع، ودفعته من مجتمع آمن صامت لا يجرؤ على التعبير إلى مصاب بالتوتر والخوف الذي وصل إلى حد تفجير النفس في سبيل قتل الأبرياء داخل الأوطان الآمنة.
كان الاتهام المعلن في ذلك الزمن لمناهج المدارس الدينية ولإرث الفهم الأصولي للدين، والذي تم تحميله المسؤولية كاملة، على الرغم من أنه كان له الفضل في توحيد القبائل وإيقاف الغزوات والحروب الأهلية بين الأقاليم والقبائل، وبالفعل تم استخدام كافة الوسائل داخلياً كان ذلك أو خارجياً لتغيير المناهج، لكن يبدو أن الأمر أعمق من ذلك، فالمجتمع يفتقد إلى مشروع حضاري يؤسس للغة الاتصال وذهنية الاحترام، فنحن نعيش إلى الآن في أبراج عمودية، مفتوحة فقط إلى السماء، وليس فيها نوافذ تطل على الشارع أو الجيران، وتظهر غالباً عدم الثقة أو الشك في الآخر، ونتخاطب بلغة تفتقر إلى أبجديات الاحترام.. وتظهر الاستعداد الذهني إلى تقديم العراك والخصام لأتفه الأسباب..
فثقافة البداوة بمعانيها السطحية والعنيفة ازدادت خلال العقد الأخير، ويتم تشجيعها من خلال برامج تجارية ومسابقات شعر شعبي ومزايين إبل في ظل غياب ثقافة بديلة يتم تأهيلها لشغل فراغ التعليم الديني اللامنهجي، أي مشرع بديل يتوافق مع توجه الخطاب الرسمي، الذي يدعو إلى نبذ المزايدات في الشعارات السطحية، والتي تثير الأحقاد والضغائن بين فئات المجتمع..
سلوك العنف يظهر أيضاً في الموقف من البيئة، وهي إشكالية أزلية نتيجة للقصور الحضاري، ولكي ندرك ذلك علينا الخروج من المدينة، وزيارة بعض الأدوية والشعبان القريبة منها، والتي تختلط في باطنها كميات هائلة من النفايات التي تحتوي على مختلف المواد الضارة بصحة البيئة والإنسان، كذلك هناك من لا يهتم بما هو خارج سور مزرعته أو منزله، ويكدس نفاياته في أقرب أرض إليه، ويترك للريح مسؤولية توزيعها على مختلف أحياء القرية أو المدينة..
كذلك تبرهن حوادث العنف الأسري التي أظهرها الإعلام مؤخراً أننا في أمس الحاجة لوضع ترتيبات تعالج هذا المنعطف الخطير في أخلاقيات المجتمع وأساليبه عنفه الأسري..
ومن أجل فهم أكثر لسلوك العنف في المجتمع علينا مراقبة طريقة قيادة السيارات في شوارع الرياض الفسيحة، والتي تخالف أبسط أبجديات القيادة واحترام أدب الطريق، ومنها عدم الالتزام بالمسارات، واستخدام الطريق السريع كميدان السباق لا يعترف بتدرج السرعة من اليمين إلى اليسار..، وإذا حدث ولم يستطع تجاوز السيارات الأخرى، يغضب ويفقد السيطرة على أعصابه، ثم يحاول المرور بأي وسيلة، وقد يصل أحياناً الأمر إلى أكثر من ذلك، وإلى العراك واستخدام العصا الغليظة أو (السلاح) إذا لم تحدث كارثة في الطريق قبل ذلك..
يزيد استقدام بعض المؤسسات لعمال من الهند وباكستان وبنغلاديش للاستثمار في النقل العمومي من حدة العنف المروري، فغالبيتهم غير متعلمين، ويفتقرون أيضاً إلى أدبيات القيادة، وتسابق الريح من أجل تحصيل ما يكفي لسداد (النسبة) للكفيل، وتخلو سيارتهم من أدنى مستويات النظافة، ويتكاثرون بصورة مخيفة بسبب الفوضى العارمة التي تحكم سوق سيارات الأجرة،.. بينما في لندن على سبيل المثال تشترط إدارة المرور للحصول على مهنة قيادة سيارات الأجرة إكمال دورة تدريبية تشمل أخلاقيات وأدبيات المهنة والالتزام بالنظام المروري، واحترام المشاة، ومعرفة شوارع المدينة ونظام العناوين فيها، وإتقان للغة.. وذلك لأنهم يعدون واجهة حضارية قادرة على رسم الابتسامة على محيا المدينة.