كان هذا عنوان ندوة شاركت بها في النادي الأدبي بالرياض السبت الماضي. وكانت محاورها المقترحة من قبل مدير الندوة الأستاذ محمد الهويميل هي عن المرأة السعودية بوصفها نقطة تجاذب ومادة استقطاب واستمالة من شتى التيارات الفكرية..
.. ووضعها قبل 11 سبتمبر وبعده من حيث حالتها الاستقطابية وموقفها من تجنيدها لهذا الطرف أو ذاك..
وإذا بدأت بالعنوان فإني أفهم الأسلمة هنا باعتبارها مصطلحاً تفعيلياً للإسلاموية، أو كفاعلية للإسلاميين. والفرد الإسلامي هو مصطلح سياسي محدث، أما من يدين بالإسلام فهو مسلم؛ في حين أن الإسلامي - حسب فهمي - فهو فرد مسلم ملتزم بنظرة إيديولوجية تُكرس البعد الديني في كل قضايا الحياة حتى تلك التي تقع تحت المظلة الدنيوية التي أشار إليها الحديث الشريف:(أنتم أعلم بأمور دنياكم). وهنا يأتي الخلاف بين الإسلامي وبين بقية التيارات الفكرية غير الإسلاموية؛ أي الخلاف فيما يدخل وما لا يدخل في الحيز الديني، وفيما يدخل به الديني أو لا يدخل في الحيز الدنيوي.
ففي الوقت الذي يرى فيه الحداثي أو الليبرالي المسلم أن المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأدبية هي قضايا دنيوية، وأن الجانب الديني فيها هو جانب أخلاقي وقيمي، يعطي توجهات أخلاقية عامة، دون الدخول في تفاصيل العمل باستثناء ما جاء فيه نص قطعي الدلالة والثبوت، يرى الإسلاموي ألا فصل بين الديني والدنيوي، وأن الدين يدخل في أغلب تفاصيل تلك المسائل إن لم يكن كلها، وبالتالي فإن كل عمل لا بد أن تتم أسلمته مهما كان دنيوياً.
ولأن مصطلحي الأسلمة واللبرلة، فيهما كثير من الخلط والحساسية، فقد آثرت أن أستخدم مصطلحين أرى أنهما رديفان لهما في سياقنا هذا، وهما السلفية والحداثة ووضع المرأة السعودية بينهما.
فإذا بدأنا بمسألة استقطاب المرأة السعودية من قبل الرجل، فإني أجدني أختلف مع المحاور المقترحة؛ فالمحور الأساسي يشير إلى المرأة بوصفها نقطة تجاذب ومادة استقطاب واستمالة من شتى التيارات الفكرية، بينما لا أرى المرأة إلا جزءاً لا يتجزأ من النسيج الثقافي السعودي برجاله ونسائه، ومنه النشاط الثقافي الحداثي، وبالتالي فهي ليس مادة استقطاب، بل مشاركة ورائدة في المشهد الثقافي، والشواهد على ذلك كثيرة جدا.
ففي الفن التشكيلي نجد أن الفنانة منيرة موصلي من الرائدات في تأسيس هذا الفن بالسعودية، وفي الرواية نجد أن الروائية رجاء عالم تتربع على قمة الأسماء الروائية الحداثية بالسعودية، ونجد أن الشاعرة فوزية أبو خالد رائدة في الشعر النثري السعودي، ونجد الإعلامية نوال بخش وسلوى شاكر ومريم الغامدي من أهم الأسماء التطويرية في الإعلام الإذاعي السعودي. وفي الجانب الدعوي هناك داعيات مؤثرات بشكل كبير مثل أسماء الرويشد ورقية المحارب..
وعموماً، نجد مئات الكاتبات والأديبات والمؤرخات والباحثات والأكاديميات والصحفيات والناشطات، وكلٌّ رائدة في مجالها، فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد منهن: فوزية البكر، خيرية السقاف، حسناء القنيعير، هند الخثيلة، ثريا العريض، سهيلة زين العابدين، هتون الفاسي، مي يماني، أميرة كشغري، أميمة الخميس، بدرية البشر، هدى الدغفق، أمل زاهد، إيمان القويفلي، ناهد باعشن، وجيهة الحويدر، فوزية العيوني، ناهد باشطح، إيمان القحطاني، سمر المقرن، بثينة النصر، نادين بدير..
إذن لماذا يُظن أن المرأة السعودية مستقطبة؟ لعل السبب الرئيس في ذلك يعود إلى الأفكار التقليدية الجاهزة والمسبقة عن المرأة، وإلى الوضع الاجتماعي للمرأة السعودية وتأثيره على الوضع الثقافي ومن ثم تأثيره على المشهد الثقافي. فأغلب التقاليد المحلية تنظر للمرأة باعتبارها ناقصة عقل، فمن الطبيعي أن تراها مادة للاستقطاب الفكري. فالتقليدية السلفية ترى المرأة في وضع سكون وتبعية، لذا فالتقليدي يظن أن الحداثة تريد شيئا من المرأة بنفس الطريقة التي يريد هو وإن كان بمضمون مختلف، بينما الحداثة تتعامل مع المرأة والرجل على قدم المساواة. إذن التقليدية كفكر ذكوري تخاصم الفكر الذي يحرك دور المرأة باعتباره فكراً ذكورياً آخر وفكراً متآمراً، رغم أن الطرف الآخر يتعامل مع هذه المسألة دون تفريق جنسي.
إذن، بما أن الأوضاع الاجتماعية غير مساوية بين الجنسين لصالح السلطة الذكورية، معتبرة المرأة مجرد تابع، فمن المتوقع أن يمتد ذلك إلى المشهد الثقافي ويُظن أن المرأة المثقفة مجرد تابع. ولكن التوقع شيء والواقع شيء آخر. والواقع كما بينت الشواهد وضح الاستقلالية الفكرية للمرأة المثقفة مثل الرجل المثقف، تميل مع هذا التيار الفكري أو ذاك كما يميل الرجل المثقف. ومن هنا لا نجد فقط أن المرأة السعودية المثقفة مشاركة في النسيج الثقافي السعودي، بل رائدة في توجهات هذا التيار أو ذاك خاصة التيار الحداثي، لأنه بالأساس لا يرى أي فرق بين الجنسين، ويؤمن بالمساواة الكاملة غير المنقوصة وغير المشروطة بين المرأة والرجل. ومن الجدير بالإشارة هنا أن أغلب الملاحظات في مجال التعليم تشير بشكل عام إلى تفوق الطالبة السعودية على أخيها، فأين نقصان العقل هذا!؟
وهذه المشاركة والريادة للمرأة السعودية تمتد خارج النطاق الثقافي إلى النطاق الاجتماعي والاقتصادي. ورغم أن هذه الريادة في بواكيرها، إلا أنها في السنوات الأخيرة، التي تميزت بالانفتاح، أخذت تتنامى باطراد متسارع. ففي المجال الاجتماعي نجد المرأة ناشطة بشكل فعّال وتقود مؤسسات المجتمع المدني، أمثال: مشاعل البكر، حصة آل الشيخ، وفاء المنيف، هنا المنيف، عائشة المانع، نورة الصويان، نورة الغانم، ابتهال مبارك.. ولعلنا نسترجع في الأشهر الأخيرة مبادرات مميزة، مثل مبادرة الطلاق السعودية بريادة هيفاء خالد. وفي المجال الاقتصادي نلاحظ مشاركة المرأة للمؤسسات الاقتصادية، كما لاحظنا في انتخابات الغرف التجارية.. وأمثلة النساء الرائدات في ذلك كثيرة (لبنى العليان، نادية باخرجي، ناهد طاهر). والمرأة السعودية تواجه تحديات وصعوبات خاصة في مسألة التمييز ضدها في الأعراف الاجتماعية. ورغم ذلك فإن جدارة واستقلالية المرأة السعودية تعدت النطاق المحلي إلى النطاق العربي والعالمي مثل ثريا عبيد (مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة للإسكان) وأفنان الشعيبي رئيسة الغرفة العربية البريطانية، وعالمة العقاقير سميرة سلام الحاصلة على جائزة اليونسكو في العلوم، والطبيبة العالمة سامية العمودي في مبادرتها في موضوع السرطان، التي كان لها تأثير عالمي..
أخيراً، هل هناك استقطاب؟ نعم هناك استقطاب، لكنه يتوجه لكل من المرأة والرجل على حد سواء، ويتم من المرأة المثقفة والرجل المثقف على حد سواء أيضاً. والاستقطاب الفكري هنا هو مسألة طبيعية وصحية، ودلالة عافية لمجتمع يتوجه نحو الديناميكية والحيوية في التعاطي مع المتغيرات المتسارعة في عالم اليوم. نعم هناك جدل فكري وصراع ثقافي سلمي بين القديم والجديد، بين الأصالة والانفتاح، بين المحافظة على الهوية والبحث عن هويات أكثر عصرية.. إنه جدل السلفية والحداثة.
alhebib@yahoo.com