ونحن نعيش حالياً نهضة علمية (أكاديمية) شاملة وعلى طراز رفيع وبدعم شخصي غير مسبوق من قمة الهرم حيث المتابعة الشخصية المستمرة للمنجزات التعليمية من لدن خادم الحرمين الشريفين- أيده الله - ومن سمو ولي عهده الأمين. تقوم الهيئة الوطنية للتقويم والاعتماد الأكاديمي (اعتماد) وهي هيئة حديثة التكوين بتقديم الدعم العلمي والفني الضروريين لتعزيز سلامة النهج العملي الجديد وفق أحدث المعايير العلمية لتحقيق أقصى استفادة علمية ممكنة من هذا الدعم الحكومي السخي للعلم والعلماء، ولتأسيس أرضية علمية (مبدعة) ننطلق منها بإذن الله نحو اقتصاد المعرفة بكل ثبات مدعومين بآلاف من شبابنا وشاباتنا الذين ينهلون حالياً من منابع العلم (العلمي والتقني) في أفضل الجامعات في الشرق والغرب. وتقوم (اعتماد) وبقوة النظام بمراقبة الخطط الدراسية والبرامج الأكاديمية في مختلف جامعات المملكة الحكومية والأهلية للتأكد من تصميمها وفق أحدث المعايير العلمية العالمية لترتقي تلك البرامج بمخرجاتها التعليمية لمصاف الدول المتقدمة.
حقيقة إن ما تقوم به (اعتماد) من جهود حثيثة داخل أروقة الأقسام في مختلف جامعات المملكة تمهيداً لحصول تلك الأقسام على الاعتماد الأكاديمي المطلوب محلياً وخارجياً بعد تقييم مستوى أدائها وفحص خططها الدراسية وإستراتيجياتها المستقبلية ومؤهلاتها الفنية والعلمية والأكاديمية، قد دفعني للتفكير في قطاعنا المالي بمختلف مؤسساته البنكية والاستثمارية والجهات المشرفة عليه على اختلاف مسئولياتها وحجم صلاحياتها الممنوحة لها. إن المتتبع للطريقة التي يدار بها اقتصادنا الوطني ومؤسساتنا المالية وصناديقنا السيادية الاستثمارية وأسواقنا المالية وسياساتنا الاقتصادية المحلية يجد أن دائرة اتخاذ القرار في كل منها هي دائرة ضيقة جداً وقد تقتصر على شخص واحد لا أكثر باعتباره هو المسئول الأول والأخير.
من منا يعلم حقيقة الوضع المالي لأي شركة مساهمة أو لأي بنك من بنوكنا التجارية؟ من منا يعلم حقيقة التأثير السلبي (رغم وجوده) للأزمة المالية العالمية على شركاتنا المحلية العملاقة كسابك وأرامكو وغيرها من أعمدة اقتصادنا الوطني؟ ومن منا يعلم كيف تصنع قرارات مصيرية جرت الكثير منا إلى خسائر (سهمية) كوارثية تجاوزت التريليوني ريال خلال فترة زمنية لا تتجاوز الثلاث السنوات؟ ومن منا يفهم حقاً لماذ خسر الريال أكثر من ربع قيمته خلال فترة زمنية لا تتجاوز السنتين من غير ذنب اقترفه ريالنا العزيز سوى ارتباطه بسيد العملات الأخضر؟ ومن منا يفهم لماذا نبقي على هذا الارتباط بين العملتين رغم ضرره البين على ريالنا الغالي؟ ومن منا يفهم لماذا لا نقوم برفع قيمة ريالنا لتعويض ما فقده رغم اتفاق الكثير من رجالات الاقتصاد العالميين على إمكانية اتخاذ مثل تلك الخطوة؟ ومن منا يفهم الكيفية التي تصمم بها الخطط الاستثمارية المحلية والخارجية والتي تدار بها فوائضنا المالية ومدخرات أجيالنا المستقبلية؟ ومن منا يفهم كيف تدار صناديق الدولة الثلاثة وما هي إستراتيجياتها الاستثمارية القصيرة والطويلة الأجل؟ ومن منا يفهم كيف خسر أحد تلك الصناديق أكثر من 90 مليار ريال خلال انهيار فبراير الشهير؟ ومن منا يفهم كيف تجاوز مؤشر سوق الأسهم العشرين ألف نقطة ومن ثم ملامسته لمستويات أربعة آلاف نقطة خلال فترة أقل من ثلاث سنوات ومن غير مبرر اقتصادي سليم؟ ومن منا استوعب الأسباب الحقيقية لانهيار فبراير وكيف (أخرج) البعض من السوق قبل حدوث الطوفان؟ ومن منا يفهم لماذا تمت برمجة العشرات من الاكتتابات لطرحها في السوق ليتم تجفيف كامل سيولته؟ ومن منا يفهم لماذا يمنع المجلس الاقتصادي الأعلى إنشاء صندوق التوازن وهو الذي صدر بإنشائه قرار من مجلس الوزراء الموقر؟ ومن منا يفهم لماذا لا يتم الاستعانة بالخبراء الأجانب لتطوير أسواقنا المالية أسوة بغيرنا من الدول المجاورة التي ومنذ ثلاثين سنة وحتى اليوم لاتزال تعتمد (خطأً) على ورقة مالية واحدة هي الأسهم ذات المخاطر الأعلى في مجال الاستثمار؟ ومن منا يفهم لماذا لا يوجد قنوات استثمارية مضمونة وشرعية لدى بنوكنا العزيزة كشهادات الإيداع لامتصاص سيولة من لا يحبذون تحمل أية مخاطر استثمارية عند استثمارهم لأموالهم بدلاً من دفعهم دفعاً للدخول في (محرقة) سوق الأسهم؟ ومن منا يفهم لماذا نضطر مرغمين على ترك أموالنا النقدية في حساباتنا ونتخلى (لأسباب شرعية) عن عوائدها لبنوكنا العزيزة وهي عوائد كافية للقضاء على مظاهر الفقر في بلدنا الحبيب خلال سنتين أو أقل؟ ومن منا يفهم لماذا انتقد الرئيس الأمريكي الجديد الكثير من الشركات التي تعرضت لمصاعب مالية وحصلت على مساعدات مالية حكومية من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين واتهمها بعدم تحمل مسئوولياتها وافتقادها للشفافية في تصرفاتها وطالب علناً بتضمين خطة الإنقاذ المالية الجديدة (819 مليار دولار) بوسائل تمنع الشركات من استغلال أموال المساعدات الحكومية في غير قنواتها المخصصة لها.
وفي هذا السياق، يقوم الكونجرس الأمريكي حالياً بدراسة مقترح جدي طرحه الرئيس أوباما في حملته الانتخابية لتعيين (جهة ما) للإشراف على القطاع المالي الأمريكي وإعطائها كامل الحق في المراقبة والتدخل ودراسة الأسباب التي أدت إلى نشوء وتفاقم الأزمة المالية الحالية. ويعتقد رئيس لجنة الخدمات المالية في الكونجرس السيناتور الديموقراطي بارني فرانك بأن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي هو أفضل من يقوم بدور ضابط الاستقرار للنظام المالي الأمريكي بدلاً من الوضع القائم حالياً حيث تتوزع مهام مراقبة القطاع المالي على عدة جهات لا يوجد من بينها من تقوم بتقييم المخاطر المنتظمة التي تحيط بالقطاع المالي الأمريكي. إن وجود جهة ما لتنظيم ومراقبة القطاع المالي أصبحت هدفاً شعبياً لضمان سلامة القطاع المالي وعدم تكرار ما يحدث حالياً من انهيار وشيك للقطاع المالي بكامله.
وفي ظني أننا وفي ظل انهيار شامل لسوق الأسهم الحالي بسبب غياب الشفافية من قبل الجهات الإشرافية ومن قبل شركاتنا المساهمة صغيرها وكبيرها، وفي ظل عدم تطبيق لائحة الحوكمة (أو على الأقل البدء بتجهيز الأرضية المناسبة لتطبيقها) فإنني أرى أننا بحاجة أكبر من حاجة الإقتصاد الأمريكي المتطور لجهة إشرافية تراقب وتقيم القرارات المهمة التي يتم اتخاذها داخل أروقة وزاراتنا ذات العلاقة ومؤسساتنا المالية كالبنوك وشركات الوساطة وأسواقنا المالية كسوق الأسهم والتأمين والتقسيط قبل إقرارها بحيث تكون الكلمة الفصل هي لهذه الجهة الإشرافية والتي تضع مصلحة المواطن لا غير فوق أي اعتبار آخر.
وعندما أكون مواطناً أولاً واقتصادياً ثانياً فهل يحق لي أن اقترح إنشاء هيئة وطنية للتقويم والاعتماد المالي تكون مهمتها مراقبة السياسة المالية لوزارة المالية والسياسة النقدية للبنك المركزي وتطبيق الشفافية الكاملة ومعايير الإفصاح في السوق المالية وإعادة هيكلة وتنظيم مجالس إدارات الشركات المساهمة إلى غير ذلك من المهام التي لا يمكن حصرها في مقالة قصيرة كهذه، فالاقتصاد يا أحبة وجد من أجل زيادة رفاهية الشعوب في كل بلد ولم يوجد ليكون سبباً في شقائهم وتعاستهم، فهل نسى أم تناسى اقتصاديونا في مجلس الشورى والمجلس الاقتصادي الأعلى وفي هيئة السوق المالية وفي كل مكان اقتصاديات الرفاهية، ذلك الوجه المشرق لعلم الاقتصاد ولعالمه الإيطالي الشهير باريتو.
أستاذ العلوم الاقتصادية والمالية بجامعة الملك سعود
alhosaan@gmail.com