مع تساقط البنوك العالمية خلال العام وإشهارات الإفلاس نجد أنفسنا أننا لسنا أمام أزمة اقتصادية، ولكن أمام أزمة أخلاقية تعج بالتلاعبات والاختلاسات وجرائم الاحتيال والأدهى أن من قام بها أناس يفترض أن نثق في آرائهم ولكن هم من احتال وتلاعب بل وصل الأمر في بعض الأحوال إلى السرقة والتهرب الضريبي بالإضافة إلى المكافآت التي يستلمها التنفيذيون المبالغ فيها.
الكل سمع عن (بيرنارد مايدوف) الذي انفضح أمره بل انفضح أمر (الرقابة على الوسطاء في الوول ستريت) التي حققت معه في اتهامات سابقة ولكنها لم تصل إلى شيء إلا أن هذه المرة ليست ككل مرة, فمن قام بإبلاغ السلطات هم أبناؤه بعد اعترافه لهم، والمتضررون في قضية مايدوف بنوك منها المنهار أو الذي شارف على الانهيار.
السيد برنارد قام بأكبر عملية تلاعب في تاريخ الوول ستريت والمفارقة الغريبة هي أن مايدوف كان من أكبر المحسنين في أمريكا وإسرائيل بحكم ديانته اليهودية حتى بلغ في إحسانه أنه أعلن عن اعتزامه تقسيم مبلغ بين الـ200 والـ300 مليون دولار على أقرباء وموظفين وأصدقاء بنهاية العام 2008م وهذا هو السبب في قيام ابنه بإبلاغ السلطات عليه.
والسؤال هو ما هو الحكم المتوقع لمن احتال وخطط على مدى الأربعة عقود الماضية ؟ ليحتال على الناسداك وأكبر البنوك الاستثمارية فضحايا بيرنارد من الوزن الثقيل والخبير أيضا يتصدر قائمته بنك اتش اس بي سي البريطاني وبنك رويال بنك اوف اسكتلاند وهو بريطاني أيضا وبنك بي أن بي باربياس الفرنسي ومع الأسف أن المجال لا يتسع لذكر الباقين ولكن هؤلاء هم أكبر ثلاثة متضررين من البنوك كما أن القائمة احتوت رجال أعمال أبرزهم فريد ويليبون مالك نييورك ميتس، الطريف في الأمر أن أحداً من عملائه لم يصدق أن يكون الرئيس السابق لمجلس إدارة الناسداك ومجلس محافظيها ومن قاد حملة (من أجل المزيد من الشفافية داخل ناسداك) أن يحتال عليهم بمبالغ تصل إلى الخمسين مليار دولار! الجواب ما قاله الخبراء وهو أن الحكم المتوقع السجن لعشرين سنة وغرامة مالية تصل إلى الخمسة ملايين دولار وهذه هي عدالة القضاء الأمريكي فالسيد بيرنارد مايدوف دخل موسوعة غينس للأرقام القياسية بأكبر عملية احتيال في الوول ستريت ويخلى سبيله مقابل كفالة بـ10 مليون دولار.
قصة أخرى وهي أكبر فضائح الاحتيال العقاري في بريطانيا وبطلها سيمون موريس فقد ورد في صحيفة صنداي تايمز أن من بين الضحايا أطباء وممرضات ومدرسين ومستثمرين في البناء بل وصل إلى أن أحد اللذين كانوا يعملون معه، أورثته هذه القضية ديونا بمبلغ خمسمائة ألف جنيه إسترليني وأنه تلقى تهديدات عندما حاول إخبار الشرطة بالأمر. العقاب الذي اتخذ بحقة إعلان إفلاس الشركة والاستغناء عن خدمات سيمون موريس وفصله من الشركة (هذا ماستطعت من الوصول اليه في بحثي عن عقوبته الحالية والمحتمله) ومرة أخرى هذه عدالة القضاء البريطاني. وفي فرنسا ومع بداية العام 2008م أطل علينا بنك سوسييتيه جنرال أحد أهم المصارف الفرنسية بقصة غريبة وهي أن أحد الوسطاء احتال على البنك وكبده خسائر وصلت إلى 4.9 مليار يورو يضاف إليها مليار يورو خسائر من سعر أسهمه المرتبطة بأزمة الرهن العقاري أي أن المبلغ الإجمالي 6.9مليار يورو, والعقاب هو إجبار الموظف على تقديم استقالته وهذه هي عدالة القضاء الفرنسي. وعودة إلى الولايات المتحدة نجد أن تفليسة ليهمان براذرز الذي أنشأه أخوان يهوديان مهاجران من ألمانيا قبل ما يربو عن المائة عام واستمرت عائلتهما بامتلاك البنك حتى إعلان الإفلاس نجد أن هذه التفليسة شابها نوع من الغموض فقبيل الإعلان يتم تحويل أربعمائة مليون دولار من قبل أحد ملاك البنك إلى أحد الحسابات داخل إسرائيل وترفض إسرائيل إعادتها إلى الولايات المتحدة.
كما أن الرئيس باراك أوباما منع شركات السيارات من الاستفادة من خطة الإنقاذ الأمريكية بسبب نفقات التنفيذيين والتي شملت رحلات سياحية بمبالغ باهضة (بكل ما تعني الكلمة) وطائرات خاصة ومرتبات أقرب ما تكون إلى الخيال إضافة إلى مكافآت سنوية أكثر من خيالية، استجاب له هؤلاء التنفيذيون وقرروا الاستغناء عن طائراتهم الخاصة لكي تشملهم خطة الإنقاذ، الطريف في الامر أن استغناءهم عن الطائرات مقابل حصولهم على سيارات بمواصفات خاصة وبقيم خيالية. في النهاية جميع هذه العمليات تمت ولكن ما لفت نظري أن مهندسين هذه العمليات حاصلين على درجات علمية عالية ويمتازون بالتفوق والغريب أيضا أن فرص نجاحهم كانت ممكنة بالطرق المشروعة ولكنهم بذلوا جهودهم لإنجاح عملياتهم غير المشروعة.
فهل هو مرض نفسي أو حقد مترسب على المجتمع أو أنهم انقادوا خلف القول المأثور (القانون لا يحمي المغفلين)؟! ولكن في النهاية الأزمة العالمية هي أزمة أخلاقية قبل أن تكون أزمة اقتصادية وجاء في محكم التنزيل: (عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) فالأزمة الاقتصادية كشفت لنا عن أزمة أخلاقية اجتاحت الدول.
a.albarrak@windowslive.com